اعتبر الشرق الأوسط منطقة متميّزة بين أقاليم العالم من حيث تواتر الصراعات وشدتها لأمد طويل، لكن ينبغي الإقرار الآن بأنه يتميّز كذلك بقلة قنوات التواصل الإقليمي فيه، وآليات فض النزاعات، وقلة المعايير حول مجريات الحرب، مع فائض وفير من واردات السلاح. وثمة فرص أمام دول الإقليم والفاعلين الدوليين لفتح القنوات لحل النزاعات الحالية، وربما تحول بذلك دون اندلاع نزاعات في المستقبل.
إن الاضطرابات الداخلية، وصراعات القوة بين دول الإقليم، والمشاجرات بين الدول المتجاورة قد تستمر على الأرجح في المنطقة التي تصارع الآن لإقرار توازن جديد، لأن النماذج الاقتصادية والعقود الاجتماعية القائمة منذ عقود بدأ يعفو عليها الزمن.
لكن ليس ثمة ما يحتّم ترجمة هذه المشاكل وتحويلها إلى نزاعات مسلحة واسعة الانتشار تتسبب في معاناة إنسانية مهولة، وفي تدمير مؤسسات الدولة، بالإضافة إلى انتشار هذه النزاعات في المناطق المجاورة. جوهر السياسة المعاصرة هو الصراع الجيوسياسي على المجال الحيوي للدول والموارد الطبيعية والمُصنعة وتأمين الممرات وسلاسل الإمداد وخطوط الملاحة البرية والبحرية والجوية وفرض القيم والأفكار والتوجهات الكبرى والتحكم بالبيانات والمعرفة الخاصة.
أن روسيا تعتبر الشرق الأوسط بمثابة منطقة محاذية لحدودها، ويقع في المراحل الأولى من تنفيذ استراتيجية طويلة الأجل، وذلك في محاولة للعودة بنفسها إلى المكانة القوية والتأثير الذي كانت تملكه بالمنطقة أثناء الحرب الباردة. وتعمل روسيا على تقويض علاقات الولايات المتحدة المتواجدة منذ أمد بعيد في منطقة الشرق الأوسط وإعادة هيكلة النظام الإقليمي وفقاً لما يروق لها أكثر.
وقد طالبت الـ”فورين بوليسي” الإدارة الأميركية بالبحث عن فرص للتعاون مع الحكومة الروسية في النقاط التي تتفق فيها مصالح الطرفين. وبالطبع يعد أفضل مثال على التعاون الروسي الأميركي في المنطقة هو المفاوضات بشأن الخطة الواسعة المشتركة للعمل، حيث قامت الولايات المتحدة وروسيا بالتعاون بشأن قضية ذات اهتمام مشترك وذلك بهدف زيادة السلامة والأمن بالمنطقة.
وليس سراً أن الشرق الأوسط يمكن أن يكون بمثابة المجرى الاستراتيجي لتقاسم العبء مع قوى خارجية أخرى مثل روسيا والصين وغيرها من الدول العظمى، ما يخفف سياسيا وماليا وعسكريا من الضغط على الولايات المتحدة.
في النهاية، لن يكون الشرق الأوسط هو الساحة الرئيسية التي تقوم عليها المنافسة الروسية الأميركية. ولكن المعطيات الدولية وموازين القوى والوضع في الاتحاد الأوروبي وتحالفات روسيا مع عدد من الدول في آسيا وأميركا الجنوبية وإفريقيا قد يجعل من الأحداث العالمية تسير بشكل متسارع وغير متوقع وعلى العكس مما ترسمه بيوت الخبرة ومراكز البحوث الغربية نظرا لأن الصين تسعى اقتصاديا للإمساك بزمام الأمور عالميا والتحكم ماليا بجميع الاقتصادات من خلال دعم عسكري روسي لها، تماماً كما تسعى الولايات المتحدة لتحقيق ذلك مع عدد من دول المنطقة في الشرق الأوسط وفي منطقة المحيط ا لهادئ.
تنطوي كل من هذه الكتل على تناقضات داخلية. فسورية هي نقطة الارتكاز للتعاون الروسي الإيراني، إلا أن روسيا تحاول العمل من خلال المؤسسة العسكرية السورية غير الطائفية، اسمياً، بينما تستخدم إيران الميليشيات الطائفية التي تقوّض تماسك الدولة. كما أن رد فعل روسيا الخافت على الغارات الجوية الإسرائيلية واسعة النطاق في أيار/مايو 2018 على المرافق الإيرانية داخل سورية- بالمقارنة مع احتجاجاتها المجلجلة على الضربات الجوية المحدودة، بما لا يقاس، التي قامت بها الولايات المتحدة على ما يشتبه بأنه أسلحة كيميائية قبل ذلك بشهر واحد، كان يوحي بأن روسيا لم تنزعج لخفض قدرة إيران العسكرية في سورية.
في تلك الأثناء، تبدو الكتلة التي تتزعمها الولايات المتحدة كما لو كانت حشداً بدائياً للنفور من إيران أكثر منها تحالفاً عسكرياً من النوع المتعارف عليه. وفي غياب الحديث عن دولة فلسطينية، ستظل إسرائيل تفتقر إلى علاقات دبلوماسية أساسية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
ويتساءل الباحثون والمختصون: هل ستعيد جائحة كورونا تشكيل المشهد الدولي، وتكون فرعاً جديداً في الجغرافيا السياسية؟ وهل سيشهد العالم تغيرات جيوسياسية كبيرة
ويتحول صراع الهيمنة لصراع تجاري وعلمي وتكنولوجي وصراع أمني خفي تخوضه الدول بعيداً عن أراضيها لتفرض نفوذها بالوكالة؟ وهل تتجه الأمور، ضمن مراجعات في السياسة الأميركية إلى إعادة توجيه الموارد من الشرق الأوسط إلى آسيا؟
وهي رسائل التقطها بعض اللاعبين الرئيسين في المنطقة بالخطأ لكون ما يحدث في المنطقة هو تأصيل النفوذ الأميركي- الصيني بطرق غير تقليدية ومجرد عملية إعادة تمركز والطريق وما يحمله الطريق إلى مناطق النفوذ في آسيا وأفريقيا يمر من هنا.
فاليوم هناك قواعد جديدة للعبة الجيوسياسية، وتحول في دفة الحروب من الميدان العسكري إلى صراعات لا تسيل فيها دماء، ولكن تضرب من خلالها ركائز اقتصادات دول أو نظامها الصحي أو العبث بأهم موارد الحياة لديها، وذلك كحروب الاستثمار في الموانئ، والتي تخدم غرضاً اقتصادياً تجارياً وآخر عسكرياً وأمنياً واستخبارياً،
وتشكل خط دفاع وردع أول للمنافسين الاستراتيجيين، وحروب إغراق الأسواق وتعويم العملات والتجويع والحرمان التقني واحتكار مداخل ومخارج البحوث المتقدمة.
وقد ظهرت، على سبيل المثال، منظمات اقتصادية وقوى عسكرية جديدة، مثل بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، وهو أكبر سوق على هذا الكوكب، واختلاط الشركات الاقتصادية بالأمنية وسياسة نشوء مصطلح حليف الموقف؛ أي أن تتحالف دولتان أو أكثر أو دولة مع منظمة أو حلف، وخلط الأوراق في تحالفات متشابكة معقدة وبسيطة حيال قضية ما أو موقف ما، وينتهي هذا التحالف بانتهاء الموقف في خضم بيئة استراتيجية لها سمات تعد انعكاساً مباشراً للطبيعة البشرية المبهمة والمتقلبة والمضطربة بالمقام الأول، وكذلك طبيعة العلاقات الدولية، التي لا يوجد بها ثوابت دائمة ويسودها عدم اليقين والغموض والتسارع في الأحداث، وحتمية التنافسية والتضارب في المصالح وعدم الالتقاء عند نقاط تلاقي مصالح معينة.
وعليه فإن صعوبة التوافق طوال الوقت، والخلاف على ما هي أفضل الظروف، التي تخدم غاية جهة مقابل غاية وأهداف الجهة الأخرى هو الطبيعي، بينما الانسجام التام هو السباحة ضد التيار الطبيعي للعلاقات الدولية المعاصرة.
بالإضافة إلى التدخّل العسكري المباشر، يتدخّل الفاعلون الخارجيون على نحو غير مباشر كذلك، عن طريق بيع السلاح والمساعدة الأمنية التي قد تبدو وسيلة جذابة للتأثير على مسارات النزاع بدون استخدام الجنود أو القيام بعمل عسكري. علاوةً على ذلك، قد تجلب مبيعات السلاح بالنسبة إلى كبار المصدّرين، مثل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وكذلك روسيا والصين، فوائد اقتصادية مهمة، وهي غدت من الأولويات الدبلوماسية وعاملاً في تحقيق مكاسب سياسية للقادة في الدول المصدرة.
إن الشرق الأوسط هو المنطقة الأكثر عسكرةً في العالم ومع أنه، من الناحية العددية، يشكّل ستة في المئة من سكان العالم، ويسهم بستة في المئة فقط من الناتج الإجمالي المحلي فيه، فإنه يمثّل ما يقرب من ثلث واردات السلاح في الفترة بين عامي 2013 و2017 – أي أكثر من ضعفي وارداته بالمقارنة مع السنوات الخمس السابقة.
تحديد نطاقات جديدة لبيع السلاح: ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين أن تدرس الظروف التي تزوّد فيها دول الشرق الأوسط بالسلاح، وأن تدقّق كذلك في منافسيها غير المناسبين في هذا المجال. إن مثل هذه الأسلحة تلهب الصراع في تلك البلدان وتؤدّي إلى تهديد أمنها الجماعي عن طريق الهجرة والإرهاب. وللإقلال من احتمال تسرّب الأسلحة إلى فاعلين خارج نطاق الدولة،
فإن عليها تضع قيودا مشدّدة على بيع أنظمة الأسلحة المتقدمة للبلدان الهشة، لتفادي أخطار اندلاع نزاعات داخلية في المستقبل. كما أن على الولايات المتحدة وحلفائها كذلك أن تشدّد القيود على المبيعات للدول التي تمارس الإساءة الجسيمة لحقوق الإنسان ضد مواطنيها.
إن الصراع، والمعاناة السياسية، والتجزئة في ليبيا ما بعد الثورة هي، في أساسها، نتاج لنظام الحوكمة الموروث من أيام الجماهيرية، الذي ألغى وأبطل المنافسة بين الليبيين. وتكمن المشكلة في تمركز إدارة الدولة، وأنظمة اتخاذ القرار، والمالية. وعلى هذا الأساس فإن اللامركزية هي من العناصر الجوهرية لأية عملية إصلاحية في البلاد.
وينبغي نقل الصلاحيات في القضايا السياسية (مثل تقديم الخدمات والمشاريع التنموية)، مع ضمان توزيع عائدات النفط في البلاد. وعندما تتم اللامركزية في مجالَي الإنفاق وصنع القرار، سيغدو من السهل إلى درجة كبيرة، حل الكثير من المليشيات وتحويلها إلى جهاز للأمن الوطني.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان