لم أنزعج ـ كما انزعج كثيرون ـ من الدعوة الماكرة لحذف نصوص القرآن الكريم من مناهج القراءة لتلاميذ المدارس، ووضع نصوص من التوراة والإنجيل فى المناهج، فهذه الدعوة بالنسبة لى ليست صادمة، لأنها تأتى فى سياق مشروع قديم متجدد لتفتيت الهوية العربية الإسلامية فى مصر وشقيقاتها العربيات المسلمات، وهو مشروع متعدد الرؤوس والأذناب والزوايا، ينفق عليه بسخاء من دول ومؤسسات عالمية، عملت جاهدة على تغيير وتطوير وتحديث الإسلام كدين، ولما فشلت فى ذلك لجأت إلى حيل أخرى تصل بها إلى هدفها خطوة خطوة، عبر تفكيك وتفتيت الهوية فى تلك البلدان، حتى لايبقى لها من عروبتها وإسلامها غير الاسم والعلم والطقوس والشعائر والمسبحة والعمامة.
هذه الدعوة الماكرة لحذف نصوص القرآن الكريم من كتب القراءة هى إحدى زوايا المشروع التآمرى الخطير، وقد ظهرت قبلها وبعدها دعوات أخرى من نفس النوع، ولذات الهدف، مثل العودة إلى الفرعونية القديمة، واعتماد اللغة العامية لغة رسمية للكتابة بدلا من الفصحى، وترجمة القرآن الكريم إلى اللغة العامية، وكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وإلغاء المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن ” الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع”، وإلغاء خانة الديانة من بطاقات الهوية، حتى وصل الأمر بأحدهم إلى مرحلة “اسجد للكلب”.
وليس بعيدا عن هذه الدعوات الهدامة تلك الجرأة الواضحة على ثوابت الإسلام، والتشكيك المقصود فى رموزه، والتحرش بشرائعه، خاصة فيما يتعلق بالمرأة والأحوال الشخصية والمواريث، والاستخفاف بالصحابة، وتسفيه الأئمة الكبار الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة وعلوم الدين والدنيا، والهجوم الدائم على تراث الأمة، والعمل على محوه واستئصاله، والسعى وراء كل مايشوه الإسلام والمسلمين، ورد كل مثلبة فى سلوك أى مسلم على وجه الأرض إلى الإسلام ذاته.
وقد تكشفت مؤخرا حقائق فاضحة حول هذا المشروع التآمرى لتفتيت الهوية، فهناك من يخطط، ومن يمول، ومن يفسح المجال للأذرع الإعلامية كى تنشر غثاءها عبر الفضائيات، وفى هذا الصدد تحديدا خصصت قناة ” الحرة ” الأمريكية برنامجين مدفوعين لتنفيذ المهمة تحت عناوين براقة مثل ” التجديد ” و ” التنوير” و ” تنقية التراث “.
وفى ثمانينيات القرن الماضى كانت قد ظهرت الدعوة إلى حذف الأيات القرآنية والأحاديث النبوية من مناهج كتب القراءة بنفس المبررات المضللة التى ترددت هذه الأيام، وأصدر وزير التربية والتعليم فى ذلك الوقت ـ الدكتور فتحى سرور ـ قرار الحذف، وأرسله لمديريات التعليم للتنفيذ، ثم سارع بسحبه بعد أن أدرك حقيقة الأمر، وكبتت الدعوة المغرضة كما كبتت حاليا، لكنها لن تخمد، وسوف تظهر كثيرا فى المستقبل، فهؤلاء القوم لايغفلون عن أهدافهم.
ومن حسن الحظ أن أطرافا عديدة نهضت للرد على صاحب الدعوة الماكرة عبر مواقع التواصل الاجتماعى، ولم تعد القضية مقصورة على من يكتبون فى الصحف ويظهرون على الشاشات، فحين تساءل: لماذا يدرس الطلبة فى مناهج النصوص والقراءة آيات قرآنية ويطالبون بحفظ أحاديث نبوية، أين النصوص القبطية واليهودية ؟! جاء أبلغ رد من الصديق رامى أرمانيوس الذى كتب على صفحته بالعامية: ” أنا ممكن أجيب بنتى فى إعدادى ترد على استفسارك، بس ماتستاهلش، احنا بندرس نصوص قرآنية علشان هى أصل اللغة العربية وإعجاز لغوى والنصوص الأخرى مترجمة مالهاش دعوة باللغة العربية، والنصوص اللى بندرسها ـ وأنا على علم بالمناهج ـ تحث على الفضيلة ومكارم الأخلاق ولا تمس العقائد، وهى لايوازيها أى نص عربى فى بلاغتها ومعانيها السامية، كفاية فتن “.
لقد أراد صاحب الدعوة الماكرة أن يثير بكلامه فتنة دينية كما اعتاد، فجاءه الرد مفحما ممن كان يتصور أنه سيصفق له، واستيقظ الضمير الوطنى ماردا يستعصى على هذا الهراء، ليذكرنا مرة أخرى بالمارد الذى أيقظه المحامى والسياسى الوطنى مكرم عبيد فى وجه مثيرى الفتن حين قال: ” أنا مسيحى الديانة مسلم الوطن”، وجعلها باقية فى عقبه، قاعدة تقر التعددية الدينية فى إطار الهوية العربية الإسلامية المستقيمة للوطن.
ولن يصح فى بلد كبلدنا التعامى عن هذه التعددية الدينية والطائفية وأهمية الحفاظ عليها، لأنها تثرى البنيان الثقافى الوطنى، وتمده بأسباب التنوع، وتنشر فيه قيم الوسطية والتسامح، وتشجع على الانفتاح العقلى وقبول الآخر، وهذه أبعاد لايراها دعاة إلغاء خانة الديانة من بطاقات الهوية، غير مدركين أن دعوتهم تعنى أن تذوب الأقلية فى الأغلبية، ويحسبون أنهم بذلك يحسنون صنعا، مع أنهم يلحقون أبلغ الضرر بهذه الأقلية التى تحمى حقوقها قواعد دستورية وقانونية.
وما يقال عن خانة الديانة يقال عن المادة الثانية من الدستور التى يطالب الماكرون بين الحين والآخر بإلغائها زاعمين أنها تسبب ضررا للمسيحيين، وهو تدليس مكشوف ومردود عليه، فهذه المادة هى التى حفظت وتحفظ حقوق المسيحيين، عقيدتهم وكنيستهم، وتحفظ للبابا ولايته الروحية على المسيحيين المصريين، وبدونها سيخضع الجميع، مسلمون ومسيحيون، لقانون واحد، وستخسر الكنيسة نفوذها على المسيحيين، خاصة فيما يتعلق بملف الزواج والطلاق.
ومن رحم هذه المادة الثانية خرجت المادة الثالثة من الدستور التى تنص على أن” مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسى للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية واختيار قياداتهم الروحية “، وقد كان من الواجب أن تقطع هذه المادة بوضوحها ألسنة المزايدين والمغرضين، لكن هيهات.