أن مستقبل العديد من الوظائف في مصر مقبل على تحول من الأنماط التقليدية إلى نموذج جديد مع النظر في إمكانية تحويل بعض الوظائف رقمياً، والتركيز على الوظائف الإبداعية، بما يدفع إلى ضرورة التفكير في مستقبل سوق العمل بشكل مختلف، وما إذا كانت ستتحقق توقعات بعض الفلاسفة الذين رجحوا ذلك بالفعل حدوث هذا التحول عالميا، مثل جريمي ريفكن، في كتابه “نهاية العمل” الذي طرح ذلك التنبؤ في عام 1995، نتيجة الطفرة التكنولوجية، قائلاً: “إن التكنولوجيا ستُفضي تدريجياً إلى اختفاء اليد العاملة البشرية”، وطالب بضرورة الاستعداد لذلك.
هذه المفاهيم الساكنة في العقول المتعلقة بكليات القمة يبدو أنها تحتاج للتشويش خلال الفترة الحالية وفقا لمحللين، وذلك في ظل المتغيرات الجديدة التي تؤكدها كافة التقارير والمؤشرات العالمية حول شكل وظائف المستقبل، بعد التطور السريع في التكنولوجيا وتقنيات الذكاء الاصطناعي والآتمتة والبرمجة وأنترنت الأشياء، وسيطرة الأفكار الاستثمارية على مصادر الدخل كبديل للوظائف التقليدية التي كانت سائدة لعقود، وبالتالي أصبحت تخصصات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والبرمجة هي الأكثر سيطرة على وظائف المستقبل الأعلى دخلاً باعتبارها القادرة على قيادة الاقتصاد نحو الثورة الصناعية الرابعة.
وأصبحت الأفكار متعددة وكثيرة حول ارتباط الوظائف بالتكنولوجيا في ظل جائحة كورونا التي سرعت من عملية التحول الرقمي في الدولة المصرية والعالم، حيث نشهد تغيرات جذرية بوتيرة غير مسبوقة في مختلف المجالات بدفع من التطور المذهل في التقنيات الحديثة التي بدلت ملامح العديد من القطاعات التقليدية ورسمت توجهات مختلفة لم تكن متوقعة من قبل، بما يطرح العديد من التساؤلات.
إن التخصصات تتبدل تمامًا كما تغيَّرت منصات العمل. وأذكر هنا تخصصات لم نعرفها من قبل مثل مطوري الواقع الافتراضي ومهندسي السيارة ذات القيادة الذاتية وغيرهم، مثل محللي البيانات، ومحللي نظم الكمبيوتر، وإخصائي أمن المعلومات، وصناع ومحللي الأكواد، والتسويق الإلكترونى ومصممى البرمجيات. وللأسف فإن أغلب التخصصات الجديدة لا نجد لها قاعدة فى الجامعات بل تقوم بإعداد الشباب لها الشركات الكبرى.
لقد أصبح التعليم والتدريب افتراضيًا واقعًا، من دون الحاجة لشراء أراضٍ أو استئجار مبانٍ وإنفاق المليارات. وتظهر وستظهر هذه الشهادات متناهية الصغر (Nanodegree) التى لا تُكلف الراغبين موارد كبيرة، ودبلومات مهنية لرفع مستوى أداء الموظفين.
أولاً مصطلح الأَتْمَتَة أنا لم أكن أعرفه إلا بعد قراءتى لعدد من التقارير حول مستقبل الوظائف والعمل فى المستقبل، وهو مصطلح مُعَرَّب يعنى التَّشْغِيل الآلِى، وهو مصطلح مستحدث يُطلق على كل شىء يعمل ذاتيًا بدون تدخل بشرى. ويمكن وصف الأتمتة بأنها استخدام الكمبيوتر والأجهزة المبنية على المعالجات أو المتحكمات والبرمجيات فى مختلف القطاعات الصناعية والتجارية والخدمية من أجل تأمين سير الإجراءات والأعمال بشكل آلى دقيق وسليم وبأقل خطأ ممكن. باختصار الأتمتة هى فن جعل الإجراءات والآلات تسير وتعمل بشكل تلقائى بكفاءة أكبر وزمن أقل وبدون تدخل إنسانى.
إن التعليم العالى لا ينبغى أن نفكر فيه كرد فعل لحالة سوق العمل الحالية، أو نسب البطالة أو حال مهنة من المهن فى لحظة زمنية بعينها.. إلا أنه سيظل هذا النوع من التعليم الذى يرسم ملامح المستقبل، ويبنى البشر القادرين على صنع التنمية وليس ملء فراغ الاحتياجات فقط.. يبنى الإنسان صانع الفرصة ومحققها وليس فقط المستفيد منها. يؤهل الشباب ويبنى الشخصية السوية التى تحترم الاختلاف وتبتعد عن التطرف.
تولت الجامعات عبر القرون عددًا من الوظائف الاجتماعية. ويشكل تنوع مثل هذه الوظائف الشخصية الفريدة التى تكتسبها الجامعة. وتحتاج كل الجامعات إلى «التكاثر» و«الانتشار» و«التطور» فى ذات الوقت، كما أنها تحتاج إلى معرفة أسباب التغير أو أسباب التمسك بالتقاليد. ولكى يتسنى لها القيام بهذا عليها أن تتشكك فيما تم اكتسابه، وتختبر أيضًا أنماط التفكير المختلفة الموجودة فى المجتمع. كما أن على الجامعة أن تقوم بالمخاطرة بتقديم كل ما هو غير متوقع للمجتمعات التى تستسهل بقاء الأمر كما هو عليه بل وتحارب التجديد والتغيير حفاظًا على الواقع الذى تم التعود عليه حتى ولو كان منتقدًا.
الأصل أن دورها فى المجتمع هو ابتكار الجديد واستيعابه، ونقل وصنع المعرفة، وتحقيق التناغم والتكيف ما بين المعرفة وكيفية الحصول عليها واستخدامها فى وقتنا الحاضر، ومتطلبات المستقبل. وبناءً على هذا فإن دور المؤسسات الأكاديمية يتأكد فى البحث والتدريس وتقديم العون لكل الأنشطة على أساس قدرتها على المعارضة (البعد الانتقادى) والموافقة (الحاجة إلى الالتزام)، وبدون البعد الأكاديمى البحثى والقيم الأساسية للمجتمع البحثى فإن التقدم الذى ننشده قد ينقلب إلى فوضى.
وبإيجاز شديد، إننا نواجه بلاشك تغيرات سريعة جدًا فى وسط عالم متغير اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وعلميًا وتكنولوجيًا. فالتحدى الذى يواجه النظم التعليمية كبير، وإذا كان معدل التغيير داخل أى مؤسسة تعليمية أبطأ من معدل التغيير الحاصل خارجها فلننتظر عندئذ نهايتها فى المدى المنظور.
فالنظام التعليمى الذى يتجاهل المستجدات والتغيرات التى تشكل الغد ينهى بذلك علاقته أو ارتباطه بحياة الطلاب، وسيضمحل شيئًا فشيئًا. ولهذا يجب إعادة صياغة مؤسساتنا التعليمية منذ ما قبل المدرسة إلى الكلية، لنعدّ طلابنا الإعداد المناسب للمستقبل وليس للماضى.
الأمر يستوجب من المؤسسات الأكاديمية، التى تأمل فى أن تظل قادرة على المنافسة، أن تكون سبَّاقة فى تحديث برامجها الأكاديمية. وأعود إلى برامج التعليم عن بُعد والبرامج التعليمية على الإنترنت فى اكتساب قوة دافعة للتعلم، مما يحتم على المعاهد والجامعات، تضمين تقنيات الواقع الافتراضى فى برامجها، والسماح بهذا النوع من الجامعات فى الظهور والانتشار، لتوفير بيئة تساعد فى تحديث المهارات وتسهيل عملية التحوُّل الوظيفى للشباب.
أنا هنا، لا أنسى أَنْسَنة التعليم رغم رقمنته.. أنا أعيد التذكير برؤية مصر ٢٠٣٠، التى أوضحت كل ما قلته لكم بوضوح، وهى الرؤية التى لا أحس بوجودها رغم أهميتها لدى الحكومة أو الإعلام أو البرلمان. إننى أرى فى رؤية مصر 2030 خمسة محاور أساسية تصب فى كل ما قلناه، أولها الإتاحة وعدم التمييز والجودة، وثانيها حوكمة إدارة المنظومة التعليمية ورقمنتها بلا مركزية لا تحتمل المقايضة، وثالثها رقمنة التعليم وبناء البنية التحتية التى تؤكد أن يكون الطالب فى منزله والمدرس فى مدرسته وأستاذ الجامعة وإدارتهم تفكر رقميًا
وتعمل رقميًا وتنتج رقميًا، ورابعها بناء الشخصية المصرية المتسامحة المحبة للجمال التى تعمل كفريق، المؤمنة بالحرية، الفخورة بماضيها، ولديها الأمل فى مستقبلها، ولا يكون ذلك ممكنًا بدون المدرسين القادرين، الذين يقودون معايشة الطلاب داخل المؤسسة التعليمية، ولا يتم ذلك بدون ممارسة الرياضة والفن، وتعلم تذوق الجمال والعمل المجتمعي، وأخيرًا رفع القدرة التنافسية لأطفالنا وشبابنا إلى سقف المعايير العالمية.
أن الذكاء الاصطناعي والأتمتة قادرين تماماً على تعزيز النمو الاقتصادي، لكن في المقابل سيضطر الملايين من البشر في جميع أنحاء العالم إلى تغيير وظائفهم أو فقدانها إن لم يعملوا جاهدين على رفع مستوى مهاراتهم لتمكنهم من مواكبة تلك التغيرات الرقمية، كما أن العديد من الخريجين لن يضمنو وظائف إذا اختاروا تخصصات تقليدية.
أن الوظائف التقليدية التي كانت تشكل 41% من إجمالي الوظائف العالمية سوف تبدأ بالتراجع بنسبة 26% فقط خلال عام 2022، وستبدأ مجموعة أخرى من الوظائف الرقمية التي كانت تشكل نسبة 8% في عام 2018 بالصعود لتصل إلى نسبة 21%، وتتمثل هذه الوظائف الرقمية (التجارة الإلكترونية والحوسبة السحابية،والذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء، والخدمات الطبية واللوجيستية الرقمية، وهندسة البرمجيات وعلوم البيانات والتكنولوجيا المالية مما سيؤدي إلى ظهور اتجاهات عمل جديدة ونمو أسواق توظيف ناشئة وفرص عمل أكثر
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان