مشهور فواز (١٩٥٧م - ٢٠٠٢م)
إلحاقاً بمقالات الصديق الدكتور عبدالحكم العلامي المتتابعة، التي أورَد فيها مشاهد من رحلته الإبداعية مع شقيقي الراحل الدكتور مشهور فواز.
وتعزيزاً لدور الباحثة الدرعمية الباسلة التي التقيتُ بها مرتين وهي تحمل على كاهلها حقيبتها الملأى بأوراق ودواوين شقيقي رحمه الله لدراستها وفحصها ونَيل درجة الماجستير فيها من كلية دار العلوم.
واستجابةً لعدد من الشعراء والنقاد ومحبي الشعر وفي طليعتهم الأساتذة الكرام: فتحي محفوظ، وحسام العربي، وفنان ماسبيرو محمد الشناوي، وكريمة زين العابدين.
وتقديراً لكل من سعى يسألني عن أشعاره، فإنني أُورد هنا بعض ما قد لا يعرفه الأدباء الجدد عن مشهور فواز الشاعر الذي لمع اسمه في الأوساط الأدبية والبحثية في ثمانينيّات القرن الماضي مُبشّراً بتوجّهٍ شعريٍّ جديد من خلال مشروعه الإبداعيّ الذي يعدّه البعضُ فتحاً رياديّاً في توجّهات القصيدة الحداثية، من خلال تسعة دواوين له، صدر خمسةٌ منها في حياته، هي على التوالي:
١ـ تاريخ يؤرقه الظمأ ١٩٨٧م
٢- هجمة من الغرام في البلاد ١٩٩٤م
٣ـ قصائد الفرح المتاح ١٩٩٥م
٤ـ يقين الغرباء ١٩٩٨م
٥ـ أرعى خوفي ٢٠٠١َم
وصدر منها أربعةٌ بعد مماته هي على التوالي:
١- ذاكرة أسير لها ٢٠٠٢م
٢ـ قيلولة الصيف ٢٠٠٣م
٣- جغرافيا الضلّيل ٢٠٠٣م ( صدر عن هيئة الكتاب بعد أربعة أعوام من تاريخ استلامها إياه!)
٤ـ معصية حرة ٢٠٠٧م
وله أطروحتان في جامعة القاهرة:
١- الشعر السياسي في مصر (رسالة ماجستير) كلية دارالعلوم.
٢ـ التمرد في الشعر العربي الحديث (رسالة دكتوراه) كلية دارالعلوم.
فضلا عن الأعمال المخطوطة التي لم تطبع حتى الآن ومنها دراسة نقدية في كتاب مخطوط عن (قصيدة الشيطان لعباس محمود العقاد)
أقول: إن الدكتور مشهور فواز شاعرٌ متمردٌ من الطراز الرفيع، أوقف مشروعه الشعريِّ كله على النخبة، بل على الصفوة من النخبة، لا ينزل بشعره عن مستوى مخاطبة الخاصة ولا يستهويه إرضاء العامة، وأبغض شيئٍ إليه تملقُ أصحاب المعارف البسيطة أو العلوم السطحية.
وهو لم يدفع بشعره إلى أسواق المتاجرين بالكلمة، ولا هو روّج لقصائده في "دكاكين الجملة" ممن يتلقّفون الإبداع الرخيص ويُسَوّقون السلع المضروبة للمخدوعين، وقد بلغ بقصيدته أوجاً لم تستطعه القصيدة الحداثية في مراحل كثيرة من تطورها معتمداً في ذلك على موهبةٍ فذةٍ وثقافةٍ عريقة، فجمع بين الحداثة في الرؤية والموضوعات، وبين الأصالة في اللغة والإيقاع التفعيليّ وسائر الخامات والأدوات.
وعلى الرغم مما كان يميّز مشهور فواز من استعلاء الشخصية بين أقرانه وجاذبيته لأصدقائه، وكبرياء أدواته ورؤيته الشعرية، فإنه لم يحاول أن يتبوأ واحداً من تلك المراكز الأدبية الزائفة التي يسبّح بحمدها المنتفعون ويهلل لها المنافقون، واصفاً إياها بمراكز العبث والفوضى ومُصرّحاً في إجابةٍ له حول هذا المعنى قائلاً : (الشعر وسيلتي الوحيدة لرجم هذا العالم المليء بالعبث والفوضى)
لم يكن لمشهور فواز توجّه واضحٌ في شعره إلى السياسة أو إلى أيٍ من التعصّبات السياسية التي كانت قد بلغت ذروتها في سبعينيّات وثمانينيّات القرن العشرين، وقد أفلت بذلك تماماً من وقوع قصيدته في مستنقع الأيدلوجيات.
لكنه على المستوى الشخصي كان ضد الأنظمة القمعية كافّة، وكان يرى أن مصر ودول العالم الثالث ـ إن يُراد لها التقدّم ـ فلا مناص عندئذٍ أن تسعى لحكم ديمقراطي حقيقي، وأن يكون مجلس النواب هو الذي يختار حكومة الأمة، وأن السلطة العسكرية خندقها على الحدود، وأن السلطة الدينية خندقها في الجامع والكنيسة وبالتالي في البيت والمدارس الأوّلية فقط.
وهو يرى أن النموذج الملكيّ وتعددَ الأحزاب، الذي عاشته مصر في حقبةٍ من تاريخها، هو النموذج الأمثل، فالمَلِك يملك ولا يحكم، والحُكم لممثلي الشعب ونوّابه، وقد ترجم مشهور فواز هذا المعتقد إلى واقع يحياه، فبادر بالانضمام سريعاً إلى (حزب الوفد الجديد) وواظب على حضور مجلس فؤاد باشا سراج الدين بمجرد التصريح للأحزاب بالظهور إبّان حكم الرئيس أنور السادات.
وربما تعرض مشهور فواز لمضايقاتٍ أمنية لم يكن يصرّح لنا بكثير منها إشفاقاً علينا، ولكنه في كل الأحوال كان يرى الشعر أكبر عنده من السياسة، فلم يُظهر موقفَه السياسي في قصيدة واحدة، بل في مقطع واحد، أو حتى في بيت واحد من بين كل أعماله الشعرية التي صدرت له في حياته أو بعد موته، ولكنه صرّح للصحافة الأدبية حول هذا المعنى بقوله : (كنت أحلم بالشعر الذي يُحدث ثورة، والآن أحلم بالثورة التي تُحدث شعرا) لقد بات حلمه مقصورا على التغيير من أجل الشعر، الذي هو همّه الأكبر.
وعلى المستوى الإنسانيّ عاش مشهور فواز شخصيةً قويةً آسرة، مُحاطاً بأقرانه وأنداده، محبوباً من الجميع، كان قُرةَ عين أبويه، وواسطة عِقدهما، وقد فُجعوا جميعاً بموته المفاجئ في قيلولة صيف يوليو من عام ٢٠٠٢م، مات في حلوان القاهرة، وحُمل جثمانه إلى سوهاج ومنها إلى العسيرات قرية الآباء والأجداد ليُوارَى الثرى بين يدَي أهله وعشيرته وأبيه الشيخ الكبير عبدالله الأنور فواز الذي ظل يبكيه ويرثيه حتى لحق به في يناير من عام ٢٠٠٣م بعد ستة أشهر من وفاته.
مات مشهور فواز، ومات في إثره أبوه عبدالله الأنور فواز،
ماتا وبقي منهما هذا الشعر يقاوم الموت ويتصدى للفناء.
وهاك نموذجين اثنين: الأول من شعر الابن الفقيد والثاني من شعر الأب المكلوم، رحمهما اللـه:
النموذج الأول :
[ طائر ]
شعر : د. مشهور فواز
دسّ مِنقارهُ في السنابلِ
هل فاز بالقمحِ؟
لَمّا يزل في السنابلِ منقارهُ
فاز بالموتِ،
لَمّا يزل ريشُهُ مُثقلاً بالحياةِ
إذن أَلِفَ العُشَ؟
كلا
لقد أدهشته السنابلُ فارغةً
فاختبا في الفِراشْ!
. . . .
أوَ تبكي عليهِ؟
وماذا يفيد البكاءْ
إنه – بعد حينٍ – سيطلقُ منقارَهُ
في الفضاءِ
ويمنح حكمتَهُ
بعدما يستعيد نضارتَهُ
من فصول العناءْ
النموذج الثاني :
[أبٌ مكلوم]
شعر : عبدالله الأنور فواز
وكنت أودُّ لو أغنى ودادي
بأن تمشـي بنعشـي للقبورِ
وتنفض من يديك ترابَ قبري
وتجلس للمُعزّي والعـــزيرِ
جميلٌ تحت نعشك دمع عيني
إذا قبُح البكاءُ من الكبيرِ
.