ثنائية القوة، وقوة السلاح، حلم تسعى إلى تحقيقه كافة دول العالم، سواء الكبرى أو حتى تلك التي لا يمكن تمييز مكانها على الخارطة، فلا أحد ينكر أن القوة العسكرية مازالت المقياس الأوضح في تحديد معايير القوة، بجانب القوة الاقتصادية، وغيرها من عناصر قوة الدولة، التي تمتلىء بها صفحات كتب النظريات السياسية في كافة أكاديميات العالم .
دولة واحدة نجحت، مع دول أخرى تحاول تغيير مفاهيم ومعايير قياس القوى، من خلال ما يعرف بسلاح القوة الناعمة، باعتباره أحد أهم الأسلحة الناجعة في تحديد قوة الحضور على المستوى الدولي، هذه الدولة هي كوريا الجنوبية، التي أصبحت قوتها الناعمة صداعا في رأس الدول الكبرى والصغرى على حد سواء، خاصة الجارة اللدود كوريا الشمالية، والقوة العظمى الأولى في العالم أمريكا والمنافس القوي لها الصين .
بدأت رحلة كوريا الجنوبية مع الثقافة عام ١٩٩٨م مع إنتخاب كيم داي جونج رئيساً، الذي لقّب نفسه بـ«رئيس الثقافة» وهو ما يعكس تركيزه على تنشيط القطاع الثقافي، وسنّت حكومته تشريعا تحت إسم «مشروع قانون دعم الصناعة الثقافية» والتزمت بتمويل سنوي يُقدر بنحو ١٥٠ مليون دولار وهو ما يشكّل قرابة 0.05٪ من الناتج المحلي الإجمالي الكوري لسنة ١٩٩٨م، وخفّف جونج القيود المفروضة على الصناعات الثقافية الأجنبية، وهو ما أدى إلى توافر أول «مانغا يابانية» في الأسواق الكورية عام ١٩٩٨م، وهذا ما يؤكد أن الثقافة إلهام، ما لم يتثقف شعبٌ ما بثقافات شعوب أخرى، فلن يملك الإبداع الكافي لينتج منتجات ثقافية ذات قيمة من ثقافته المحلّية، بعدها بعام بدأت بوادر تأثر الصين وهي القريبة من كوريا بموجتها الثقافية، ما حدا بالصين إلى أن تدعو الموجة الكورية بـ«الهاليو» والتي تعني «التدفق الكوري»، وبعد عقد ونصف تقريباً من سنّ التشريع سالف الذكر، انفجرت أولى موجات «الهاليو» نحو العالم كله، ألا وهو فيديو «جانجام ستايل» الذي نُشر في ٢٠١٢م على اليوتيوب، وحاز أكثر من ٣ مليارات مشاهدة! وكان هو الصرخة الكورية الأولى في ساحة أغاني البوب، وهو ما عرّف العالم بالثقافة الكورية وملامح من المجتمع الكوري ومنطقة جانجام في العاصمة سيول حتى أصبحت مكاناً يقصده السيّاح، سرعان ما خبا صيت هذا الفيديو ولكنه قدّم معروفاً لن ينساه له صنّاع الكي- بوب، كان المعروف الذي قدمه لهم هذا الفيديو هو أن عرّف العالم بصناعة الكي- بوب والفِرق الكورية الراقصة التي بدأت في هذا المجال مطلع الألفية، وقد كان هذا بداية بزوغ نجم الكي- دراما والكي- بوب، والكي- بوب تحديداً، أو لنقل فرقة بي تي إس بشكل أدق، وهي الفرقة الرائدة بين بقية الفرق الكورية الأخرى، وسأستعرض الآن معكم أدوات القوة الناعمة الكورية.
استطاعت كوريا الجنوبية واليابان والصين أن يرووا قصصهم بأنفسهم بدلاً من أن يروي الغرب القصة المغلوطة للعالم أجمع، والقصة من وجهة نظرهم تقول ” نحن شعب ذو حضارة تمتد إلى آلاف السنين، وفي الحاضر نمتلك أفضل الموارد البشرية ثقافةً، وعلماً، واحترافية لا متناهية، إن اختزالنا لا يتقبل الاختلاف، لَهُوَ مُنافٍ للحقيقة بكل معانيها، وعلينا أن نخبر العالم بهذا، لدينا مخزون ثقافي هائل والمنتجات الثقافية – كالأغاني والمحتوى المرئي والمقروء – تلقى رواجاً واسعاً في كل الأسواق”، أصبح الكوريون وفنونهم متقدمين على المستوى الإقليمي وهذه هي الخطوة التي سبقت الإنتشار العالمي .
ووفقا للبيانات المتاحة على نظام الإفصاح الإلكتروني لخدمة الإشراف المالي، شهدت وكالة “هايب” التي تدير فرق “بي بي إس” و”سفنتين” و”إنهايبن” مبيعات محلية بنسبة 24.96% فقط من إجمالي المبيعات البالغة 456.9 مليار وون (390 مليون دولار أمريكي) في النصف الأول من هذا العام، ومثلت أمريكا الشمالية 19.83% من إجمالي المبيعات، وآسيا 11.27%، والدول الأخرى 2.31%، وكانت حصة المبيعات عبر الإنترنت 41.44%، حيث يصعب تحديد موقع المستخدمين، وقالت شركة “هايب” إن جزءاً كبيراً من المبيعات عبر الإنترنت يُقدر أنها من الأسواق الخارجية وشهدت شركة “جاي وأي بي إنترتينمنت” التي تدير فرقاً مثل “توايس” زيادة في مبيعاتها الخارجية حتى تجاوزت مبيعاتها المحلية كافة التوقعات، حيث سجلت 72.9 مليار وون في إجمالي المبيعات، من بينها 39.5 مليار وون من المبيعات الخارجية و33.3 مليار وون من المبيعات المحلية .
ووفقا لما هو معروف ومسجل تاريخياً، فقد ازدهرت فرق البوب فى أوائل التسعينيات، حيث ظهرت لأول مرة بعرض المواهب الكوري فى 1992، وأصبح نظام نجوم «الكيبوب» راسخاً فى كوريا الجنوبية، وكان أول النجاحات العالمية الكبرى لكوريا الجنوبية هو البرامج التليفزيونية المعروفة باسم «الدراما الكورية»، التي كانت مخصصة فى البداية للجمهور المحلي، ولكنها وجدت شعبية فى أجزاء أخرى من آسيا وخارجها .
وقد حفزت شعبية الموسيقى والتليفزيون والأفلام الكورية نمو قطاعات أخرى مثل السياحة والطعام وتعليم اللغة، كما ارتفعت صادرات مستحضرات التجميل ومنتجات العناية بالبشرة، وهي عنصر أساسي فى كوريا الجنوبية المهووسة بالجمال بشكل كبير، ففى 2015، صدرت كوريا الجنوبية مستحضرات تجميل بقيمة إجمالية قدرها 2.64 مليار دولار، وفي 2017، أعلن رئيس كوريا الجنوبية، مون جاي، أن هدفه نشر الأفلام والموسيقى والتليفزيون الكوري إلى 100 مليون شخص فى غضون 5 سنوات .
وعلى الرغم من وجود تجارب سابقة لاستخدام القوة الناعمة، سواء من خلال الوسائل الأمريكية، أو ما نجحت فيه مصر عبر السينما والدراما والغناء ودولة التلاوة المصرية بكل نجومها، إلا أن ما تفعله كوريا الشمالية من خلال نشر ثقافة الكي بوب كرست أهمية القوة الناعمة، وأبرزت أنها عوامل مؤثرة على الإنتاج ورفع القوة الإقتصادية للدول المالكة، وزيادة رفعتها وفاعليتها السياسية على خريطة العالم ومراكز صناعة القرار، لذا فانه يجب عدم الاستهانة أبداً بالقوى الناعمة ولا بالاستثمار فيها، فدول كثيرة أدركت جدواها وكيف أنها تحولت إلى مفاتيح نمو اقتصادي وتأثير سياسي ناجح ومفيد .