لا أدرى من أين أبدأ الكلام عن هذا الرجل الرائع الذى أكرمنى الله ـ عز وجل ـ بصحبته لما يقرب من أربعين عاما، ولا من أى المداخل أدلف إلى هذه الشخصية المتفردة، وأنا الذى خبرته فى كل حالاته، فى حله وترحاله، فى صحته ومرضه، فى فرحه وحزنه، فى قوته وضعفه، فما وجدت فيه إلا أستاذا راقيا، وإنسانا حكيما، كريما خلوقا، صبورا متواضعا راضيا معطاء، واثقا فى ربه وفى نفسه .
حين يكون المصاب جللا يتلعثم اللسان، ويضطرب المنطق، وتتوه الكلمات، ولانقول إلا مايرضى ربنا ” إنا لله وإنا إليه راجعون “.
ومصابنا ـ والله ـ جلل فى الأستاذ الكبير محمد فودة رئيس تحرير المساء الأسبق، فقد كان نموذجا للإنسان الأمثل بالنسبة لى، ولعارفى فضله، وهم كثر والحمد لله، كان أبا حنونا رحيما، وأخا كبيرا صادق الأخوة، وأستاذا معلما، وصديقا وفيا يعرف للصداقة حقوقها، لم ينافس أحدا على منصب، ولم يتطلع لشيء فى يد غيره، يبذل ماوسعه الجهد لتقديم المساعدة إلى كل من يطلبها، وكل من يحتاجها، رفيقا إلى اقصى درجة بمن هم دونه، حتى ولو جاء هذا الرفق على حسابه شخصيا، زاهدا فى الغوايات الثلاث التى تسيطر على معظم الوسط الصحفى: المال والسلطة والشهرة .
عندما انتقلت من جريدة ” الجمهورية ” إلى ” المساء ” محررا بالقسم الخارجى ” الترجمة ” فى منتصف عام 1982 كان هو مديرا للتحرير، أى الرجل الثانى فى الجريدة بعد الأستاذ سمير رجب الذى كان قد عين منذ شهور قلائل رئيسا للتحرير، وجاء برؤية طموحة للنهوض بـ ” المساء ” التى انحدرت إلى حالة بائسة من الضعف والركود، وكانت أول وأهم بنود هذه الخطة اختيار الأستاذ فودة مديرا للتحرير، لما عرف عنه من كفاءة مهنية وإخلاص فى العمل وصدق فى الأداء .
كنت أراه شبه مقيم فى مكتبه ليلا ونهارا، منكبا على أوراق كثيرة أمامه، وبروفات للصفحات، وربما مر عام أو أكثر على عملى بـ ” المساء ” لم يكن بيننا فيه غير السلام والتحية، ففارق السن والمكانة لايسمح بالتقارب لأبعد من علاقة المحرر بمديره .
ثم حدث أن ذهبت إليه ذات يوم بتقرير صحفى واضعا له عنوانا إنشائيا، فلما قرأه وأعمل فيه قلمه أعطاه بريقا وسحرا عجيبا، وقبل أن أشكره بادرنى هو بإشادة حميمية أمام قيادات الجريدة، فكانت هذه هى اللحظة التى شعرت فيها أننى بدأت مشوارى الصحفى الحقيقى، وأدركت أن هناك من يتابع ويشجع ويهتم، وتوالت لقاءاتنا، ومع كل لقاء تزداد قيمته عندى، لما أرى فيه من قلب كبير طيب متسامح، يتسع لكل من حوله .
كان ـ رحمه الله ـ يمد جسور الود جميع من يتعامل معهم، ولا يحمل ضغينة لأحد، ويساند كل الزملاء كى يحصلوا على حقوقهم، ولذلك عرف عنه أنه يقول كلمة الحق، ويشجع الشباب وينصر الضعفاء وكل من له مظلمة، وقد ساعد الكثيرين أثناء وجوده فى مجلس إدارة المؤسسة لفترات طويلة، و وأشهد الله أن له أيادي بيضاء على أبناء جيلى كلهم، ومن جاء بعدنا، فما من زميل لجأ إليه وخذله، وما من زميل مرت به ظروف سعيدة أو حزينة إلا وكان إلى جواره، يذهب إلى الإسكندرية ليهنئ زميلا تزوج حديثا، ويسافر إلى الصعيد ليعزى زميلا مات والده، يفعل ذلك بتلقائية محببة، فلا يشعر أحدا بأنه تكلف المشقة من أجله .
كنت أراه دائما قمة سامقة على المستوى الإنسانى وعلى المستوى المهنى، وعندما تولى رئاسة تحرير مجلة ” حريتى ” عام 1993 إلى جانب عمله مديرا لتحرير ” المساء ” ارتقى بها من حيث التحرير والتوزيع، وأحدث بها نقلة نوعية جعلتها فى مقدمة المجلات الأسبوعية المصرية، وعندما تولى رئاسة تحرير ” المساء ” فى 1998 خطا بها قفزات هائلة للأمام، ووصل بتوزيعها إلى أرقام غير مسبوقة، وفوق كل ذلك ترك فيها صفا ثانيا قادرا على تحمل المسئولية، وكان يفخر دائما بأن ” المساء ” فيها عشرة أسماء على الأقل، كل واحد فيهم يصلح أن يكون رئيسا للتحرير .
وعلى المستوى الشخصى تعلمت منه كثيرا من الدروس، صحفيا وإنسانيا واجتماعيا، لكن الدرس الأهم فيما أظن هو أن أنصف الناس من نفسى، خاصة عندما أجلس على مقعد القيادة وأتحمل المسئولية الأولى .
وفى فترة مرضه الأخير كانت روحه دائما تهفو إلى جريدته وإلى زملائه وتلاميذه وأبنائه ومؤسسته، وعندما كنت أنقل إليه تحيات هؤلاء الزملاء وسؤالهم عنه كانت الفرحة ترتسم على وجهه، كأن طاقة إيجابية دبت فى أوصاله، فجددت دماءه وأعادت إليه شغف الحياة .
واليوم لانملك إلا أن ندعو له بالرحمات والمغفرة، وأن يلهمنا الله وأسرته الطيبة صبر المؤمنين المحتسبين، ويجزيه عنا خير الجزاء، ويعيننا على تحمل مشقة الحياة فى غيابه، فما أصعب الحياة بدون أخ لك تحبه ويحبك، وحين تلجأ إليه يصدقك النصيحة، ويصون سرك .