نحن مهووسون بالفضيحة حد الخلاعة»، فعند كتابتك لكلمة «فضيحة» على محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي مرورا بمدى تقدمه برامج القنوات الفضائية، ترى نتائج لا حصر لها من مقاطع فيديو وأخبار وكتابات في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والدينية والطائفية وفي الشؤون الرياضية أيضا، فساحة الفضيحة في أيامنا الحالية أصبحت أسلوب حياة للقضاء على الخصم وضرب جبهته وللشوشرة عليه ولو بصورة مؤقتة
انتشرت في فضاء التواصل الاجتماعي، على نطاق واسع، ظاهرة تسمى “فضائح جنسية”. ولا تعني الظاهرة انحراف مرتكبيها بقدر ما تؤشر على أن المجتمع مصاب بهوس جنسي وعطب سلوكي يجعلانه يستغرق في تتبع هذه الفضائح وكشفها وتداولها والتنكيل بأصحابها واغتيالهم معنويا في شكل من أشكال التشفي والعدوانية والقسوة التي لا تدل على سويّة نفسية أو اجتماعية، والتي تكشف أن الفاضحين يعانون من أزمات ذاتية واجتماعية مركبة.
إن كان الخبر غير صحيح، وهناك من ينتهجها من باب التفاهة لإثارة شغف الجمهور بالدخول على الرابط الخاص للخبر وتسجيل أعلى نسبة مشاهدة، في السابق كان يلجأ صاحب المشكلة أو الأزمة لذوي الحكمة لاستشارتهم في كيفية التعامل مع الخصم بشرف ونزاهة دون المساس بسمعته أو سمعة عائلته، وأكثر من يتورط في سرعة انتشار فضائحهم المشاهير فهذه تعد ضريبة الشهرة.
إن استخدام منهج الفضيحة في أيامنا الحالية في ازدياد، معللة بذلك تغير القيم التي تربينا عليها عن الآن، فنسبة الكلام زادت بسبب برامج التواصل الاجتماعي فهي تغذي نقل الفضيحة، وهناك جرائد تقوم على الفضيحة.
وتغير في معايير القيم والأخلاق، في السابق كان تداول الفضيحة لشخصية مشهورة يكون على نطاق ضيق، وحاليا، في ظل الوسائل الاجتماعية، صارت اعلى والناس يبحثون عنها، لذلك علينا الرجوع إلى القيم الدينية التي ترقي من مستوى الأخلاق، فقد وصانا سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله: «من ستر مسلما في الدنيا ستره الله يوم القيامة»،
أنا ضد الفضيحة وتناقلها بين الناس، ولكن يبقى لها جانب إيجابي، فهناك أناس تكون قصص الفضيحة والتشهير رادعا لهم فيبتعدون عنها، وهناك من لا يجد حيلة لأخذ حقه غير اتباع هذا الأسلوب ومنها قضية الفنانة زينة وأحمد عز، فهي رخيصة، لكنها تأتي بنتيجة تعتبر وسيلة للضغط من باب «الغاية تبرر الوسيلة».
أن كثيرين ينجذبون لسماع الفضائح بدافع الفضول وحب الاكتشاف، وهناك كثيرون يعتقدون أن معرفتهم لمثل هذه الأخبار تجعلهم ملمين بكل ما يدور حولهم من أمور، فهم يتسابقون نحو ما هو جديد على الساحة، ويرجع ذلك بالطبع إلى طبيعة الفرد ونمط شخصيته، فأكثر من يعشقون ذلك هم أشخاص ينقصهم الكثير من الاتزان النفسي، لا شك أن من يلجأ إلى اتباع أسلوب الفضيحة نحو الآخرين يكون هناك عداء سابق، من خلال بث هذه الفضيحة تتم تصفية الكثير من الحسابات والأحقاد والمشاكل العالقة بين الطرفين، ومن المؤكد أنه أسلوب خاطئ وخطير على كلا الطرفين فهو شرارة حارقة للمجتمع، ولا شك أنه أسلوب دنيء ينم عن رعونة صاحبه وجهله بالكثير من مقومات الشخصية المتزنة والأخلاق النزيهة، هو في النهاية نقص في التحكم في ضبط الانفعالات وانعدام للحكمة، والأهم من ذلك كله وضوح شديد في نقص الوازع الديني والبعد عن تعاليم الدين.
إن الذكورية والأبوية بنى اجتماعية ومبان ثقافية لا يمكن إحداث التغيير بتلك السهولة المتوقعة، هذه البنى قائمة منذ مئات آلاف السنين، مع تغيرات في بعض المجتمعات أحدثتها فاعليّة القوانين، بالتالي يلقى الجاني العقاب في النهاية، بينما في المجتمعات التي تسيطر فيها القيم القبلية على الدولة، فإن الضحية عادة هي الخاسر في الأخير.
إذا كان الجنس غريزة بشرية طبيعية، وحاجة إنسانية أساسية مثل الأكل والشرب، فإن ممارسته خارج إطار الزواج لا تدين الفرد في ذاته، فهو خيار شخصي محصن بالخصوصية بغض النظر عن موقفنا منه. وإذا كان في أي علاقة جنسية ما يدين أحد طرفيها فيفترض أن يكون متصلا بقرائن أخرى كالخيانة أو الاعتداء أو الاستغلال وليس بالجنس نفسه.
وحين يتم استعمال قضية شديدة الخصوصية مثل الجنس لتدمير إنسان وأسرته عبر فضحه والتشهير به، فإننا نكون إزاء اختلال عميق في البنى الثقافية والقيمية للمجتمع يعكس بدوره هشاشة حضارية واهتراء اجتماعيا.
ليست الفضيحة الفردية هي التي تتسبب في خدش حياء المجتمع؛ ولكن النزعة الفضائحية المجتمعية هي التي تنتهك الحياء الخاص والعام، وتشيع الخوف والقلق وانعدام الثقة وتقوّض الأمن الشخصي والأسري والاجتماعي، وتصادر حق الأفراد في الخصوصية، وتنتهك حق المجتمع في أن تصان خصوصية أفراده بما ينعكس على أمنه وسلمه الاجتماعي.
إن الخصوصية باعتبارها حق الفرد في حفظ حياته الخاصة من تطفل الآخرين، هي مفهوم بثلاثة أبعاد: الأول دفاعي؛ وعي الشخص بخصوصيته وقدرته على منع الآخرين من الاطلاع على أسراره وشؤونه الشخصية، أما الثاني فوقائي تضامني ويعني احترام أفراد المجتمع لحق كل فرد في التمتع بخصوصية مصانة، ويعتبر البعد الثالث حمائيا علاجيا وهو يتجسّد في حق الفرد والمجتمع في أن تكون الدولة معنية بحماية قيمة الخصوصية في المجتمع، وردّ الاعتبار للأفراد الذين تنتهك حقوقهم في الخصوصية.
الفضائحية الجنسية في مجتمعاتنا، دليل عن عدم إشباع جنسي حقيقي وهو يضغط على الفرد ويحرمه من إشباع حاجاته الإنسانية طبيعيا وبذلك تكون الخصوصية مفهوما ثقافيا وقانونيا ورأس مال اجتماعي ومسؤولية اجتماعية ومدنية يكرّس الالتزام بها الأمان الفردي والأسري والسلم الأهلي والتماسك الاجتماعي.
إن أفعال الفرد وممارساته الجنسية التي نعتبرها “شاذة” ليست ما يسيء إلى المجتمع وقيمه وتقاليده؛ ولكن السعار الجنسي السائد في المجتمع هو الذي يلعب دورا تحريضيا وإيحائيا في دفع الأفراد إلى التورط في سلوكيات جنسية تُصنّف على أنها “منحرفة” ثم ننخرط في حمى التنكيل بهم والإساءة إليهم وإعدامهم اعتباريا واجتماعيا بحجة أنهم يهددون الآداب العامة أو ينتهكون المبادئ الأخلاقية. ويعترف مراقبون بأن انحرافات الأفراد هي بضاعة المجتمع رُدّت إليه، وأن الفضائح الفردية هي انعكاس للفضائحية الفجّة السائدة في السياسة والإعلام والخطاب الديني. وبالمناسبة، فإن النزعة الاجتماعية المحافِظة المبالغ فيها تسهم في تحويل الكثير من التصرفات التي تُعتبر في ذاتها أو في مجتمعات أخرى طبيعية وعادية إلى فضائح وجرائم أخلاقية في مجتمعاتنا.
والمشكلة في وعينا المحافِظ أنه لا يتعامل مع المحافَظة السلوكية والتمسّك بالعادات والآداب كخيار شخصي أو أسري؛ ولكنه يسبغ عليها طابعا وصائيا ويجعلها سوطا مسلطا على ظهور الآخرين، فينصّب كل واحد منا نفسه وصيا على القيم وحاميا للأخلاق وسلامة آداب المجتمع ومسؤولا عن حراسة الفضيلة الجمعية، كما يمنح نفسه حق محاسبة الآخرين على أفعالهم وإصدار الأحكام عليهم بالوصم والإقصاء والاستباحة والعزل والاستبعاد.
وتعتبر جرائم الشرف وغسل العار انعكاسا لهذه النزعات الثلاث: النزعة المحافِظة المتطرفة التي تجمع بين الانغلاق التقــاليدي الذكوري والعقــلية الدينية الأصولية التحريمية، والنزعة الوصائية الأخلاقوية التي تُدجج أصحابها بالحق في ملاحقة الآخرين ومساءلتهم عن تصرفاتهم، والنزعة الفضائحية المدمّرة التي تلاحق الضحايا بعد إدانتهم بالخروج على النظام الاجتماعي.
ولهذه النزعة الفضائحية دور في دفع أفراد في المجتمع إلى الانتحار المباشر أو عبر المشاركة في أعمال إرهابية، إذ يرى باحثون أن محاولة غسل العار الشخصي والتخلص من مشاعر الإثم والانكسار والفضيحة قد تدفع بعض الشباب إلى الاستجابة لدعاية الجماعات الجهادية والإقدام على تنفيذ عمليات انتحارية في محاولة للتطهّر من تاريخهم الجنسي المدان من وجهة نظر الدين والمجتمع، وسعيا للتكفير عن خطايا الاستغراق في الملذات المحرمة والعلاقات الجنسية غير المشروعة. تكون الفضيحة فضيحة لأن المجتمع يريد لها أن تكون فضيحة. ويمارس الخطاب الغوغائي في مواقع التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في تحويل الخصوصيات الشخصية إلى فضائح واستباحة كرامة وسمعة أصحابها.
ويبقى الصوت الغوغائي هو الأعلى لأن الظاهرة الغوغائية مرعيّة أولا من القوى السياسية التحاصصية التي تستثمر في الهشاشة والانفعالية وتحتاج الغوغائية في التحشيد الطائفي والانتخابي.
والغوغائية محتضَنة من النخب الدينية التي تعوّل عليها في إسناد مشروع الظلامية الأصولية في المجتمع فهي الرافعة الرئيسة للفكر الديني والمذهبي الأصولي، ويتم التماهي مع هذه الظاهرة إعلاميا لأن وسائل الإعلام تعتمد بصورة أساسية على النزعة الغوغائية في أوساط المتلقين والتي تصنع لها الهالة والصخب في المجتمع.
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان