تقوّض الأوبئة حياتنا واقتصاداتنا، وكما رأينا على مدى الأشهر الماضية، يعاني أفقر الناس وأشدهم ضعفاً، أكثر من غيرهم. لمنع تفشي المرض في المستقبل، يتعيّن علينا أن نصبح حريصين أكثر بشأن حماية بيئتنا الطبيعية”. وما لم يتصدَّ العالم للاستغلال الجائر للحياة البرية ويوقف تدمير النظام الإيكولوجي للأرض، سيكون محتماً حدوث “تدفّق مستمرّ” في المستقبل للأمراض المعدية المنقولة بواسطة الحيوانات، وبحسب تحذير من الأمم المتحدة ، فإنة يقدر خسائر الجائحات بعشرات المليارات يرفعها كورونا إلى تريليونات.
وقد أوضحت إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لـ”برنامج الأمم المتحدة للبيئة” UNEP إن “العلم واضح بشأن أنّنا إذا لم نرتدع عن استغلال الجائرللحياة البرية وتدمير نظمنا الإيكولوجية، فلنا أن نتوقّع رؤية تيار متواصل من الأمراض ينتقل من الحيوانات إلى البشر، في السنوات المقبلة”. وفي ذلك الصدد، تدعم “اندبندنت” حملة بعنوان “أوقفوا تجارة الحيوانات البرية” Stop The Wildlife Trade . وتدعو الحملة إلى وضع حدّ لأسواق الحيوانات البرية العالية المخاطر، وبذل جهد دوليّ ينظِّم الاتجار غير القانوني بالحيوانات البرية، في سبيل التصدي لخطر انتشار أوبئة في المستقبل. ووضع إستراتيجيات ترمي إلى الحيلولة دون ظهور أوبئة مستقبلية جديدة ، وذلك عبر كسر سلسلة العدوى المتصلة بأمراض تنتقل من الحيوانات إلى البشر.
وتذكيراً، أصابت جائحة فيروس كورونا الذي يُعتقد أنّه نشأ في الخفافيش، 10.7 مليون شخص وأودت بحياة ما يربو على 500 ألف شخص في شتى أنحاء العالم. وكذلك ألحقت خسائر مدمّرة بالاقتصادات العالمية.
في الواقع، سبق أن وجد العالم في الموقف نفسه، إزاء أوبئة كـ”إيبولا”، و”ميرس” [“متلازمة الشرق الأوسط التنفسية الحادة]، و”سارس” (“متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد”)، وفيروس “غرب النيل” [الذي يحمله البعوض ويسبب التهاباً في الدماغ].
لقد انتقلت مُسبّبات تلك الأمراض كلها من الحيوانات إلى البشر. وكذلك تدأب العناصر المرضية المُسببة لحوالي 75 في المئة من الأمراض المعدية الناشئة [بمعنى أنها موجات حديثة من العدوى ظهرت خلال العقود الأخيرة]، على “القفز بين الأنواع الحية”، فتنتقل من الحيوانات إلى البشر. وأنّ ظهور أمراض مصدرها حيوانات، يتأتى من عوامل كثيرة تشمل تنامي الطلب على البروتين الحيوانيّ مع اختلاف مصدرة في كوكب تتزايد أعداد قاطنيه باستمرار.
في العالم النامي، يلقى زهاء مليوني شخص حتفهم سنوياً نتيجة أمراض حيوانية المنشأ. وتشقّ حالات من تفشي الأوبئة طريقها أيضاً بين مجموعات المواشي، ما يؤدي إلى حصار مئات الملايين من صغار المزارعين في فقر مدقع. ومنذ سنة 2000، تتسبّب الأمراض الحيوانية المنشأ بخسائر تفوق 100 مليار دولار (80 مليار جنيه إسترليني). ويُتوقّع أن يضيف وباء كورونا 9 تريليونات دولار إلى مجموع تلك الخسائر.
في تفاصيل ذات صلة، نهض بالدراسة الجديدة “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” و”المعهد الدولي لبحوث الثروة الحيوانية والتى تصبّ تركيزها على تحسين الأساليب المعتمدة في التدجين والزراعة في العالم النامي. وقد خلُص التقرير إلى أنّ ظهور أمراض مصدرها حيوانات، يتأتى من عوامل كثيرة تشمل تنامي الطلب على البروتين الحيوانيّ مع اختلاف مصدرة في كوكب تتزايد أعداد قاطنيه باستمرار.
ووفقاً لدراسة صدرت في 2019، يُتوقّع أن يرتفع عدد سكان العالم بمقدار ملياري نسمة في الثلاثين عاماً المقبلة ليصل إلى 9.7 مليارات شخص في 2050. كذلك تشمل العوامل الأخرى الكامنة وراء ظهور الأمراض [المعدية الآتية من مصدر حيواني]، التدجين المكثّف وغير المستدام، والارتفاع في حجم استهلاك الحيوانات البرية والاتجار بها.
في سياق متصل، يشكّل الاستخدام والاستغلال المتفاقمين للحياة البرية خطراً كبيراً. ويشمل ذلك اصطياد الحيوانات البرية أو صيد “لحوم الطرائد” بوصفها مصدراً للبروتين، ومسابقات الصيد، والاتجار بالأنواع البرية من الحيوانات الأليفة، وحدائق الحيوانات، والبحوث الطبية، فضلاً عن استخدام الأجزاء الحيوانية في ما يبدو أنه زينة أو منفعة علاجية.
وعلى نحوّ مماثل، تؤدي أزمة المناخ دوراً مهماً في تلك الأمور. إذ تسهم درجات الحرارة المرتفعة في زيادة الأمراض، عبر توفيرها ظروفاً أكثر ملاءمة للحشرات كالبعوض الذي في مقدوره أن ينقل فيروسات من بينها “شيكونغونيا” و”غرب النيل”. كذلك يؤثِّر تقلّب المناخ في أعداد أنواع حيوانية، كالخفافيش والقرود والقوارض، وفي توزيعها الجغرافي، علماً أنها أشبه بخزانات لمسبّبات الأمراض الحيوانية المنشأ.
في هذا الصدد، تلحظ الدراسة أنّ أفريقيا شهدت عام 2010 تفشي ما يُسمى “حمّى ريفت فالي” (“حمّى وادي الصدع”) التي ينقلها البعوض حينما تهطل أمطار موسمية بكميات أعلى من متوسط معدلاتها. واستطراداً، تشير الدراسة إلى أن أفريقيا كمصدر لحلول محتملة. إذ تضمّ القارة السمراء الجزء الأكبر عالمياً من الغابات المطيرة وما تبقى من الأراضي البرية. كذلك تستوطنها أعداد متزايدة من السكان، ما يفضي إلى تفاعلات إضافية بين الثروة الحيوانية والحياة البرية، وبالتالي يتفاقم خطر انتشار أمراض حيوانية المنشأ. إنّ الدروس المُستخلصة من فيروس “إيبولا” وغيره من الأمراض الناشئة، تتمثّل في أنّ لدى أفريقيا ثروة معرفية حول كيفية الحدّ من المخاطر.
وفق رأي أندرسن، “تقوّض الأوبئة حياتنا واقتصاداتنا، وكما رأينا على مدى الأشهر الماضية، يعاني أفقر الناس وأشدهم ضعفاً، أكثر من غيرهم. لمنع تفشي المرض في المستقبل، يتعيّن علينا أن نصبح حريصين أكثر بشأن حماية بيئتنا الطبيعية”.
وتوضيحاً، تستند توصيات “الأمم المتحدة” و”المعهد الدولي لبحوث الثروة الحيوانية” إلى ما يُعرف بنهج “الصحة الواحدة”، الذي يجمع بين الصحة العامة للناس من جهة، والخبرة البيطرية والبيئية من جهة أخرى.
وفى النهاية ، إن وضع مناهج جديدة في السيطرة على الأمراض تستند إلى تحديد المخاطر وليس اتّباع القواعد. إن تلك المناهج هي الأكثر ملاءمة بالنسبة إلى البيئات التي تفتقرّ إلى الموارد. وكذلك فإنهم يجمعون معاً خبرات بشرية وحيوانية وبيئية في مبادرات “صحة واحدة” استباقية”. وفي سياق متصل، يحمل التقرير المُشار إليه آنفاً توصيات إلى الحكومات بأن تتبنى إستراتيجيات تشمل توسيع نطاق البحث العلمي، ورفع مستوى المعرفة حيال مخاطر الأمراض المعدية المنقولة من طريق الحيوانات، إلى جانب توفير الموارد اللازمة لرعاية صحية أفضل مع تحسين الأمن البيولوجي الذى سيشكل أيضاً مفتاحاً لتحديد أمكنة ظهور الأمراض الحيوانية المنشأ مستقبلاً وكيفية مواجهتها.
كاتب المقال ا.د/ عاطف محمد كامل أحمد-مؤسس كلية الطب البيطري جامعة عين شمس ووكيل الكلية لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة والمشرف على تأسيس قسم الحياة البرية وحدائق الحيوان استاذ وخبير الحياة البرية والمحميات الطبيعية- اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية وخبير التغيرات المناخية بوزارة البيئة- الأمين العام المساعد للحياة البرية بالاتحاد العربي لحماية الحياة البرية والبحرية- جامعة الدول العربية.