لا شك في أن الصورة التي لدينا عن أنفسنا تتخذ أشكالًا متعددة نتيجة لمساهمة العديد من القنوات ، بما في ذلك وسائل الإعلام بلا شك. قد لا تعني هذه الصورة الواقع ، ولا تعبر عنه ، خاصةً إذا كان هذا يعني في الواقع إنشاء صورة للتكوين تتوافق مع أهداف من صنعوها.
في الواقع ، فإن الصورة الحقيقية هي ما يمكن أن نسميه مفهوم “الهوية” بغض النظر عن الصيغ المصاحبة لها: الهوية الوطنية أو الدينية ، إلخ. الهوية الوطنية التي نريدها والتي هي موضوعنا الحالي هي أن المواطن يجب أن يعرف وطنه أولاً ، وهذه هي الهوية القومية الفائقة ، الإثنية الفائقة ، الدينية الفائقة ، والطائفية الفائقة ، بالإضافة إلى أنها تجمع بين كل هذه الصفات باسم “المواطنة”. المواطنة تعني مصدرًا للهوية ، بمعنى آخر ،
أن تكون مواطناً هو أن تشارك مع الآخرين سواء في المدينة أو في البلد أو في الدولة ، وبالتالي أنت منخرط في الهوية الجديدة والانتساب اللذين يؤكدان القوة والترقية من البلد الذي نحن جزء منه. لا يخفى على كل مطلع أثر الإعلام البالغ على الأفراد والجماعات بل على المؤسسات والدول، وفي عصرنا أمثلة كثيرة كان للإعلام فيها السلطة العليا واليد الطولى في صناعة الحدث والتاريخ، وكان من أبرز الأحداث التي لعب فيها الإعلام دورًا كبيرًا تجاوزَ قوة الجيوش والسلاح والاقتصاد ما جرى في البلدان العربية من ثورات عارمة، فقد استُخدِم الإعلام فيها -بوسائله التقليدية والحديثة-
سلاحًا فتاكًا في مواجهة الطغاة وجيوشهم واستخباراتهم، ومثله إن الواقع لَيدل على أن نفوذ الإعلام أصبح قوة لا يستهان بها، فهي توجه الرأي العام وتتسلط على السياسة والاقتصاد، حتى إن خبرًا صغيرا في إحدى وسائل الإعلام يُبث في مكان وزمان مدروسين قد يؤدي إلى أزمة سياسية كبرى أو انهيار اقتصادي خطير، لقد أدركت الدول والجماعات والأمم ضرورةَ الإعلام وخطورته؛ فتنافست في انتحاله وتأسيس مؤسساته وتحصيل وسائله، وبذلت في سبيل إيجاد الهيئات الإعلامية الأموال الطائلة والأوقات الكثيرة والتضحيات الجسيمة لكي تحقق من خلاله مآربها وتنفذ سياساتها وتستعلم أخبار أعدائها وتسيطر على العقول
ومما يؤكد ذلك ما حدث في ألمانيا، فقد عَرَض فيلم بعنوان “ألمانيا- صناعة أمريكية” كيف أُنفِقت ملايين الدولارات على كلٍّ من النِّقابات العمالية والصناعية والنوادي الثقافية والفنية لاستبدال النموذج الأمريكي المتحضر بالموروث الثقافي الألماني النازي، وكذلك على الإعلام وخاصَّةً المجلاتِ العلمية التي من شأنها أن تحدث تغييرات جذرية يُمكنها أن تسهم في إعادة برمجة العقلية الألمانية، وقد نجحت خطط المخابرات الأمريكية حتى إنه في الـ60 من القرن الماضي -بعد 15 سنة من الحرب فقط- كان غالبية الألمان ينظرون إلى أمريكا وكأنها «الجنة»
أنه لا يعد من المغالاة أن نقرر أننا نعيش اليوم مرحلة الدولة الإعلامية الواحدة التي ألغت الحدود وأزالت السدود واختزلت المسافات والأزمان واخترقت التاريخ، وتكاد تلغي الجغرافيا حتى بات الإنسان يرى العالم ويسمعه من مقعده، ولم يقتصر ذلك على إلغاء الحدود السياسية والسدود الأمنية بل بدأ يتجاوز الحدود الثقافية ويتدخل في الخصائص النفسية وتشكيل القناعات العقدية، فيعيد بناءها وفق الخطط المرسومة لصاحب الخطاب الأكثر تأثيرًا والبيان الأكثر سحرًا والتحكم الأكثر تقنية، وبات بالإمكان القول: إن المعركة الحقيقية الفاصلة اليوم هي معركة الإعلام
ومن أبرز التحديات التي تواجه الإعلام أيضا إشكالية التصنيف والانطباعات الأوَّليَّة، وهي إشكالية يكون غالبها قريب الصلة من التعامل مع المصطلح، فيقف الانطباع السابق حول الصحيفة أو القناة أو الموقع وتصنيفه في الدائرة الإسلامية عقبةً أمام تلقي المحتوى وتوقعات الجمهور منه؛ وهذا أسهم في انصراف قطاع كبير من الجمهور بسبب تلك الانطباعات والتصنيفات السابقة.
ومن ذلك أيضًا إشكال التخصص، وهو إشكال ارتبط بنشأة كثير من المؤسسات الصحفية والإعلامية الإسلامية، إذ نشأت بعيدًا عن المتخصصين في المجال المهني الاحترافي، وربما كان هذا في البداية لقلة أو ندرة المحترفين للعمل الإعلامي من بين المنضبطين بالرؤية الإسلامية إلا أن المشكلة ظلت مستمرة إلى مدى أوسع، إذ غلب في كثير من الحالات وعلى كثير من التجارب الاستعانة بغير المختص في ممارسة العمل المهني.
ولعل إشكالات التمويل التي أشرنا إليها في بداية ذكرنا للتحديات والمشكلات التي تواجه الإعلام الإسلامي تعد من الإشكاليات الكبيرة، فتكون المؤسسات الإعلامية الإسلامية بين خيارين:
الأول: يتمثل في الحصول على التمويل من مصادر مالية مليئة مثل الدول والهيئات الكبرى والقوى العالمية، وهو خيار يضمن الاستقرار المالي والفني والتقني للمؤسسة، لكنه يجعل المحتوى مرهونًا بتصورات وتوجهات المموِّل؛ فيحرفه قليلًا أو كثيرًا عن الأهداف التي يمكن أن يرسمها القائمون على الوسيلة الإعلامية، وهذا يؤثر بصورة كبيرة على استقلالية المؤسسة.
الثاني: الاستقلالية والاعتماد على التمويل الذاتي من جيوب المؤمنين بالفكرة والمقتنعين بالرسالة، وهو خيار وإن نجح في تحقيق الاستقلالية بجدارة إلا أنه يضع كلًّا من المحتوى والمؤسسة في حرج مهني بالغ، فتعجز عن الوفاء بالالتزامات المالية للتطوير ومواكبة التنافسية في عالم لا يرحم الضعفاء والصغار.
ومن الإشكاليات أيضًا عدم تحديد طبيعة الجمهور المستهدف، فالمؤسسات الإعلامية تعاني من خلل ينطلق في غالبه من المفهوم والرؤية حول طبيعة الجمهور: أهو ذلك الجمهور الذي يؤمن بالفكرة الإسلامية أم هو عموم الجمهور في الأمة بمختلف تنوعاته، فإن كانت الأخرى فهل تمتلك المؤسسة من القدرات والإمكانات ما يؤهلها لمنافسة غيرها في عقر داره، وهل بإمكانها تقديم المحتوى المناسب للجمهور بكافة شرائحه؟
وتظل مشكلة الرغبة في الوصول إلى الجمهور المنوع مقرونة بمدى قدرة المؤسسة على المواءمة في صياغة رسالة متوازنة تجمع بين الالتزام بقيمها ومبادئها وبين تلبية احتياجات الجمهور ومتطلباته التي تعمل عليها بالفعل مجمل المؤسسات الإعلامية الموجودة في سوق الإعلام. وقد تصنع هذه الإشكالية خطابًا مزدوجًا داخل المؤسسة يُظهر غالبًا تناقضاتٍ على صفحاتها وعبر شاشاتها، فلا هي بالتي حافظت على جمهورها الذي التزم بالفكرة ولا هي وصلت إلى عموم الجمهور، فباتت كمن راوح مكانه عند منتصف الطريق فلم يبلغ ولم يتوقف أن أهم قضايا وهموم العالم الإسلامي تتمثل في التكنولوجيا وثورة المعلومات والبث المباشر والغزو الثقافي وانعدام التوازن في تدفق المعلومات والحرب النفسية الموجهة ضد المسلمين وغيرها من هموم وقضايا يواجهها الإعلام
إن عرضنا لسلبيات الإعلام وإشكالياته لا يعني إخفاقه في أداء المهمة الموكلة إليه، فقد أثبت وجوده في الساحة الإعلامية بقوة لكنه يعاني من عثرات كبيرة، وهو في النهاية جهد بشري فيه خير كثير، ووجود الخلل في مؤسساته لا يعني أنه مستسلم لها، فهو في سعي دائم نحو التخلص منها وتطوير أدائه، ولا ننسى أن الوقت عامل مهم في ذلك.
في سياق البحث عن تطوير الإعلام لا بد أن نعمل على إيجاده وجودًا فعليًّا وفاعلًا معًا، فالإعلام الإسلامي اليوم -للأسف- منفعل لا فاعل، ولا يتصدى لما يحاك للأمة من قبل أعدائها بالقدر الكافي الوافي، يقول الدكتور عبد الرزاق الدليمي: (إن من الأدبيات المتفق عليها أن المسلمين اليوم -وفي هذه الانعطافة من تاريخهم- يواجهون غزوًا واحتلالًا ثقافيًّا وفكريًّا وحضاريًّا واقتصاديًّا بشِعًا شمل كل جوانب حياتهم؛ لذا فإن مهمة الإعلام الإسلامي تتجاوز التثقيف والتوعية وفتح القنوات المعرفية أمام أجيال المسلمين إلى التحفز ووضع الخطط المناسبة في التصدي للغزو الفكري والثقافي والأخلاقي الذي يداهم الأمة الإسلامية، وسط شيوع وسائل الإعلام العابرة للقارات التي تؤثر في المجتمعات وتنقل أفكار وفلسفات وأخلاقيات شعوب العالم إلى كل مكان)
إن الفكرة السليمة والأسلوب المناسب والوسيلة الجديدة عوامل ثلاثة أجمع خبراء الإعلام على أنها تمثل أركان المعادلة الصحيحة لصناعة إعلام هادف قادر على اجتذاب الناس وتغيير الوعي.
وفي إطار الحديث عن الإعلام وسبل النهوض به قالوا: إن غياب أركان تلك المعادلة بنسب مختلفة هو ما أسهم في تأخر الإعلام الإسلامي عن النهوض بدوره المأمول، وأكد الخبراء على أن هذه العناصر الثلاثة ينبغي التعامل معها بصفتها كلًّا لا مجموعة أجزاء، فالفكرة لا تنفصل عن الأسلوب، والوسيلة لا بد لها أن تتماشى مع الفكرة، فالغاية لا تبرر الوسيلة
وأجمع علماء الإعلام أن الإعلام ينطلق من مبادئ أربعة تتعاضد كل أجهزته وتقنياته ووسائله وأساليبه للمحافظة عليها بعينها، وخلاصتها:
١_ الحقائق المدعمة بالأرقام والإحصائيات.
٢_ التجرد من الذاتية والتحلي بالموضوعية في عرض الحقائق.
٣_ الصدق والأمانة في جمع البيانات من مصادرها الأصلية.
٤_ التعبير الصادق عن الجمهور الذي يوجه إليه الإعلام.