في ظل التهديدات التي تتعرض لها إمدادات القمح العالمية بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية، تستعد الهند لتصدير 7 ملايين طن قمح في موسم 2021-2022 ,وفقاً لتصريحات فيجاي ينغار، رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة “أغروكورب إنترناشونال”، ومقرها سنغافورة والمتخصصة في تجارة القمح عالميا . طبعا صادرات القمح الهندية تأتي بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي للشعب الهندي من القمح والذي يبلغ عدده 1.4 مليار نسمة وهو ما يعادل 12 مرة عدد سكان مصر.
هذه المقدمة ضرورية لأنها تتعلق بأزمة القمح في مصر ، وكيفية التغلب عليها . فالهند كانت حتى عام 2004 دولة مستوردة للقمح ، ولكنها حققت الاكتفاء الذاتي وأصبحت تحتل المكانة التاسعة عالميا في الدول المصدر للقمح بعد أن طبقت التجارب العالم المصري الراحل الأستاذ الدكتور أحمد مستجير رائد علم الهندسة الوراثية فى مصر والعالم العربى، فى زراعة القمح باستخدام مياه البحر مباشرة دون تحلية. بعد أن نجح فى استنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل الملوحة والجفاف، لسد فجوة الغذاء.
ويعد مشروع “زراعة الفقراء”، أحد أبرز إنجازات الدكتور مستجيرالذى بدأ العمل فيه عام ١٩٨٩ بمساعدة عدد كبير من المتخصصين فى مجال الزراعة، لاستنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل درجات عالية من الملوحة والجفاف بهدف الاستفادة منها فى زراعة الصحراء فى الدول النامية. وقد استفادت الهند من المشروع وتحولت من دولة مستوردة للقمح الى دولة مصدرة. أما نحن في مصر فتجاهلت الحكومات المتعاقبة هذا المشروع ، وتوفي الدكتور العلامة أحمد مستجير في 17 أغسطس عام 2006 حزينا على دولته التي تستورد القمح والغذاء رغم أنها تمتلك كل مقومات تحقيق الاكتفاء والتصدير للخارج .
وأصبح من ضروريات الأمن القومي المصري الإسراع في تنفيذ مشروع ” زراعة الفقراء ” للدكتور مستجير، ونحن نعاني من نقص المياه العذبة، خاصة وأنه من المتوقع تفاقم أزمة المياه وبوار ملايين الأفدنة بعد استكمال بناء سد النهضة الإثيوبي .
وهناك مشروع اخر لتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح وهو زراعة منطقة الساحل الشمالي على مياه الأمطار حيث يقدر الخبراء مساحة الاراضي الصالحة للزراعة هناك حوالي 20 مليون فدان . وهو مشروع تبناه عدد كبير من خبراء الزراعة في مصدر وفي مقدمته الدكتور عبد السلام جمعة الملقب بـ ” أبو القمح ” تقديرا من الفلاحين المصريين لمجهوداته أثناء رئاسته برنامج بحوث القمح بمركز البحوث الزراعية في استنباط أصناف جديدة من تقاوى القمح ذات الإنتاجية من انتاجية الفدان من 5 أردب للفدان الى 9 أردب . كما شارك في استنباط سلالات جديدة من التقاوي زادت من إنتاجية الفدان إلي 18 أردباً وهي جيزة 157، و158، وسخا 61، و69.
ويقول الدكتور جمعة ( وهو احد رواد مربي القمح على مستوى العالم ) في حديث صحفي نشر في صحيفة المصري اليوم في 21 يونيو 2008 :” تلك المنطقة كانت منذ سنوات ما قبل الميلاد هي سلة غذاء الإمبراطورية الرومانية بدءاً من الساحل الشمالي وحتي محافظة قنا، كانوا يزرعونها بالقمح ويحصدونه وينقلونه إلي روما، الرومان فعلوا ذلك منذ آلاف السنين علي مياه المطر ونحن الآن نبرر تركنا لهذه المنطقة بلا زراعة، بالألغام تارة، وإقامة القري السياحية تارة أخري، رغم أن زراعة ملايين الأفدنة في شريط الساحل الشمالي لن يكلفنا شيئاً في الشتاء، لأن الزراعة فيها ستتم علي مياه الأمطار الغزيرة، حيث لا يحتاج ري الفدان لأكثر من نحو 300 – 500 ملليمتر مكعب من المياه”.
توفى أبو القمح المصري في 17 يناير 2016 عن عمر يناهز الـ 80 عاما قضى منها 58 عاما عاشقا للقمح بحثا وزراعة، وهو حزين رغم حصوله على جائزة الدولة التقديرية، وجائزة النيل، ومنحته المنظمة العربية للتنمية الزراعية جائزة “أفضل مربى ومنتج قمح فى العالم العربى”. أما عن سبب حزنه كما يكشف تلامذته فهو تجاهل شخصه في السنوات الأخيرة من عمره ، والأهم بسبب تجاهل أبحاثه لتحقيق مصر الإكتفاء الذاتي من القمح. وقد عبر عن هذه الحالة الحزينة لأبو القمح تلميذه الدكتور إمام الجمسي أستاذ الاقتصاد الزراعى بمركز البحوث الزراعية، والذي نقل عنه الأستاذ سعيد الشحات في مقال نشره في صحيفة اليوم السابع في 20 يناير 2016 بعنوان (رحيل أبو القمح المصرى الذى يعرفه العالم) تساؤله المرير : “إلى متى سيموت علماؤنا كمدا ونكدا؟”.
وأكد الدكتور الجمسي أن سيرة أستاذه وانجازاته تستحق أن تدون في مجلدات ، قائلا : “هو سر الطفرة فى إنتاج القمح، رفعه من 8 أرادب للفدان إلى 18 إردبا، كما أنه أبو الأصناف الحديثة للقمح التى يناسب زرعها فى مناطق الدلتا، هو الذى تصدى لتجارب قمح «الشبح» الذى يرفع حجم السنبلة وعدد الحبات فيها إلى أربعة أضعاف السنبلة العادية، وبكل أسف أخذت دول أخرى هذه التجربة ولم تستفد بها مصر “.
اختتم الدكتور الجمسي الكلام عن أستاذه أبو القمح قائلا بكل مرارة :” كل المربين للقمح فى العالم يعرفونه ويعتبرونه من رواده، وكان بوسعه أن يلبى العروض التى تلقاها من مراكز بحثية عالمية ودول متقدمة تقدر العلم والعلماء للعمل فيها، لكنه لم يفعل، اختار البقاء فى مصر بكل ما يعنى ذلك من معاناة معروفة يضعها الصغار والفاسدون أمام البحث العلمى ور
جاله”.
وأرى أن تجاهل هذه المشروعات العلمية والعملية لتحقيق مصر الاكتفاء الذاتي من القمح يعتبر خيانة لانه يضر بالأمن القومي المصري وهذا نص تصريحات المهندس احمد الليثى وزير الزراعة الاسبق الذي قال في مداخلية تليفزيونية عام 2008 : “ما فائدة المال في أيدينا لو لم نجد القمح الذى نشتريه وكل من يبرر عدم الاهتمام بزراعة القمح متهم بالتفريط في أمن مصر القومى”. واتهم في اكثر من مداخلة تليفزيونية من أسماهم أصحاب المصالح بأنهم وراء عدم اكتفاء مصر ذاتيا من هذه السلعة الاستراتيجية . وكان الليثي تولى وزارة الزراعة لمدة 18 خلال الفترة من 15 يوليو 2004 وحتى 30 ديسمبر 2005 ، ووضع خطة للإكتفاء الذاتي من القمح ولكن تم وضع العراقيل أمام تنفيذها .
Aboalaa_n@yahoo.com