يظل الأدب هو الحالة الجمالية التي تقف على الدوام ضد القبح والتطرف، وفي جميع المنعطفات التاريخية الحاسمة التي ظهر فيها التعصب للأفكار الدينية والسياسية، كان الأدب حاضراً يلوح بالرفض، ويبرز دوره الكبير من خلال أجناسه المختلفة ليشكل عالماً موازياً، يناهض بلا هوادة التطرف ويحرّض على قيم الخير والجمال والانتماء للحياة، ويدعو شعوب العالم لسيادة قيم التسامح والمساواة، والانفتاح على الثقافات المختلفة من خلال فضيلة الحوار ونبذ العنف والإقصاء، ومواجهة أي خطاب يحاول أن يغيّب العقل، ويقتل حرية الفكر.
تشظيات الإرهاب لامست جوانب فنية مهمة من عناصر الرواية حتى باتت الشخوص والأمكنة والأزمنة والحوارات مشبعة بوقع الإرهاب وآثاره المأسوية في حياة الامة، هذا ما ذهب إليه بعض المبدعين والنقاد، مشيرين إلى أن التطرف كموضوع فرضته الظروف الراهنة، والروائي يكون أكثر قصدية في اختيار موضوعه، كيف يستطيع توجيه هذه القصدية لتكون بتلقائية فنية مختلفة.
تطالعنا الروايات العربية الصادرة في هذه الأيام بكثافة فكرية وتعبيرية عالية حتى أن بعضها بات يطغى على الجانب الفني وكأن الأفكار هي المقصودة بذاتها وذلك لجسامة الأحداث السياسية التي تسهدها المنطقة والتحولات الفكرية العميقة التي تجعل من الواقع مجالا خصبا للمعالجة الفكرية والتصوير الفني. من هنا فرض خطاب الإرهاب بصوره واتجاهاته ومظاهره نفسه على الرواية العربية التي أصبحت أسيرة لهذا المنحنى الفكري الذي تحياه الأمة فكم من حبيب فقد حبيبه بسبب الإرهاب وكم ومن مكان أليف دمر بسبب الإرهاب وكم من معاناة عميقة خلفها الارهاب
وهكذا فإن تشظيات الإرهاب لامست جوانب فنية مهمة من عناصر الرواية حتى باتت الشخوص والأمكنة والأزمنة والحوارات مشبعة بوقع الإرهاب وآثاره المأسوية في حياة الامة. ونحن هنا لا ننكر أهمية معالجة الموضوع روائيا لكن المرفوض
هو أن يكون الأمر مقصودا يطغى على فنية الرواية ويسلب المتلقي متعته وجمالية التلقي وذلك ببحث الروائي عن الفكرة على حساب المعنى وهذا ما نلمسه في بعض الروايات العربية الصادرة التي قد يكون وقع الإرهاب قد ادهش الروائي فأفقده قدرته على التركيز الروائي. في المقابل نقرأ روايات نجحت في جعل قضية الإرهاب معنى روائيا قابلا للقراءة والتلقي الفكري بجماليات الرواية الحديثة وطرائقها التعبيرية لتكون الرواية وثيقة فنية للتعبير عن قضايا الواقع وليس وثيقة تسجيلية بلغة اعلامية كما عند بعض الروائيين.
لاشك أن الرواية تستجيب للواقع وضغطّ، وليست منفصلة عن ما يجري ويؤثر في حياة الناس، لكن الإبداع ايضاً يستشرف المستقل ويمهد له ويتنبأ به، هنا تربز المعادلة الصعبة ، إن وقع الروائي تحت ضغط الرائج والمطلوب خاصة على صعيد الجوائز المؤتمرات وغيرها، يتحول من مبدع حر يجترح الرؤى والجمال إلى منفذ لما هو سائد ومرحلي، ويفقد بالتالي جذوة الإبداع الحقيقي المرتبط بشرط الحرية والقفز على السائد والبحث عن المختلف والمدهش المفاجئ، نعم يقع كثير من الروائيين تحت إغراء طلب السوق أو توجهات مانحي الجوائز، لكن هذا ينعكس جودة وأصالة المنتج الروائي، وتحضر القصدية وتغيب المصداقية الفنية في بعض الحالات، إن السعي وراء المطلوب والمحبب لا ينتج أعمالا خالدة. لكن أن تكون الكتابة استجابة طبيعية لمعاناة أمة ما أو مكابدة اجتماعية وفكرية وفنية يعانيها الكاتب، تكون مسؤولة عن إنتاج الرواية هي الحالة المفترضة الطبيعية للكتابة، وليس تمثلا غير حقيقي الحالة.
في الرواية العربية في السبعينات والثمانينات وأوائل التسعينيات وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي كانت تحمل خطاباً وطنياً تحررياً من تبعات الإستعمار التقليدي وتنبه إلى أشكاله الجديدة الناعمة كان ذلك واضحاً في الرواية المصرية عند يوسف القعيد وصنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني وفي الرواية السورية والأردنية واللبنانية مع خصوصية الرواية الفلسطينية التي بقيت ملتصقة بمواجهة الصهيونية بكلِّ أشكالها/ مع انهيار الاتحاد السوفييتي
وبروز القطب الأوحد الأمريكي بكلِّ بشاعته وتوظيفه مفردات الدين في وسائله لتقويض بنيان المجتمعات العربية من الداخل وبروز التطرف الديني المسلح التكفيري الذي كان وليداً غربياً استخدمه الغرب في صراعه مع الاتحاد السوفييتي ويستخدمه الآن بنفس المنهج لتدمير المجتمعات العربية من داخلها وبأيدي أبنائها
هذا التحول في استخدام الدين برز في الرواية العربية المعاصرة المصرية والمغاربية والمشرقية كفهمٍ عميقٍ لما يُدبَّر لمجتمعاتنا من خراب/ هذا الخطاب في الرواية العربية أصبح ضرورةً لمواجهة هذا الغول الخارج من كهوف التخلف والتطرف والجهل وفرضته طبيعة التحديات الفعلية التي تواجهها الآن مجتمعاتنا العربية.
أعتقد أن المحيط العام، والسياق الغالب، فيما يقلق الجميع في هذه المرحلة هو الإرهاب والتطرف واختلال البوصلة الانسانية بشكل عام وتغوّل العنف وتسيد القتل وشلالات الدماء ودموع الأطفال والشتات في عموم ما كان سائدا وساكنا ليكون هذا التسونامي العربي الذي بدأ في مرحلة ما قبل الربيع في 2011 ربما مع سقوط بغداد.. ولعل هذا الواقع الجديد لا يمكن لأي مبدع أو كاتب أو روائي أو مسري أو قاص أو شاعر أو أي كان مسكون بهاجس الإبداع إلا أن يكون عايشه وتأثر به ويشكل جانبا كبيرا من قلقه ولهذا فإن حضور هذا الخطاب في الرواية العربية وفي الابداع بشكل عام هو مبرر وله ما يسوغه ولكن كيفية تقديمه فنيا وابداعيا هنا تكون الاشكالية في تحديد الفرق بين المنشور السياسي والرواية الحكمة فنيا.
التطرف كموضوع فعلا فرضته الظروف الراهنة، وهل الكتابة مقصودة فهذا بالتأكيد حاصل لأن في الكتابة لا بد من الوعي بما نكتب، والروائي يكون أكثر قصدية في اختيار موضوعه.. ولكن المحك يكون في كيفية توجيه هذه القصدية لتكون بتلقائية فنية مختلفة، وكيفية استثمار الموضوع ليكون العمل الفني يضيف اضاءات مختلفة له، ويقدمه بشكل يثري القضية التي يتم الاشتغال عليه، بشكل فني وابداعي مميز.
وفي مجال الرواية برزت العديد من الأعمال التي تسخر من الأفكار الاقصائية والعقول الشمولية، على نحو ما نطالعه في أدب جورج أورويل، وكوميديته التي نصبها في وجه أعتى الأنظمة التي قللت من شأن الفكر والفرد، وكذلك السخرية التي تجول في كتابات غابرييل غارثيا ماركيز وهو يرصد «متاهة الجنرال»، وتقلباته المضحكة، ما أنتج سرديات تتهكم من تلك الدوغمائية والأفكار التي حولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، وأيضاً أعمال الروائي الفيلسوف ميلان كونديرا، وكتابته التي نصبت «حفل للتفاهة»، يبرز خلالها طرائق تفكير الجنرالات الممعنة في إذلال الآخر،
وكثير من الأعمال لأدباء عالميين انفتحت على مشاهد مأساوية في تاريخ البشرية سادت فيها العصبيات العقائدية والمذهبية والسياسية، وكان ضحيتها الإنسان، فكان أن انبرت أعمال روائية عظيمة، أقامت مواجهة ثقافية وجمالية ضد ثقافة التضليل.
وربما تمثل رواية ماركس والدمية، الصادرة حديثاً للكاتبة مريم مجيدي امتداداً لتلك الأعمال الروائية التي وقفت ضد التشدد والتطرف، فقد جاءت الرواية وهي تعكس التفاصيل الصغيرة التي قد تسقط عن الذاكرة، في يوميات البشر الذين يعيشون تحت وطأة أنظمة شيدت على فكرة التشدد والامتلاك المطلق للحقيقة، وانعكاس ذلك على حياة التشرد والنزوح لملايين البشر،
ناهيك عن الذين يبقون تحت ظل تلك الأنظمة الظلامية. وترصد الروايات تلك التحولات الكبيرة التي تطرأ على حياة الناس، حيث يتحول الكثير منهم إلى أشباح بلا روح، ويرزح آخرون تحت أقبية مظلمة، لا لشيء سوى الاختلاف الفكري.
وتنسج الرواية عوالمها الخيالية التي تنشد عالماً مختلفاً، يسود فيه الجمال والخير، ويصل فيه البشر إلى تفاهمات بشأن التعدد والاختلاف الثقافي، وينشأ حوار مع الآخر، من أجل أن تسود ثقافة السلام والمحبة والتسامح ليتغير وجه العالم، وربما تأتي أهمية العمل الروائي من خلال ذلك الصدق العالي في السرد، في وصفه الأيام الرهيبة التي عاشت تفاصيلها الكاتبة وأسرتها.