يعد الخطاب الأدبي وسيلة اتصالية تحتاج إلى مرسل ومرسل إليه باعتباره إنتاجا لغويا وفكريا، ولأن المعرفة الأدبية لها ارتباط جامد بالنص الأدبي، من حيث هو سلسلة من الكلمات والعبارات الكتابية أو الشفاهية.
وباعتبار الرواية خطابا أدبيا ينتج ضمن خطابات أخرى أخذنا الخطاب الروائي كنموذج لنبحث في بنائه الداخلي الذي يحوي عناصر متعددة، فالرواية هي الجنس الأقدر استيعابا لمختلف الأشكال الكتابية ،فقد اقتحمت بفعل التجريب حدود الأجناس وتخومها وتحولت إلى جنس مهجن بداخله الشعر والمسرح والقصة والخطابة
أن الأجناس الأدبية ديدنها التطور والتجديد والتراكم والتواتر والمشابهة ولا ضير من وجود تلاقح ثقافي يجمع بين الأجناس الأدبية بما يخدم العملية الإبداعية، شريطة ألا يكون هذا التداخل عبثياً هدفه فقط التميز والخروج عن المألوف، مما يولد نماذج أدبية مشوهة لا قيمة لها ولا عنوان.
يختص الإبداع عموما بسمة قد لا تظهر بوضوح شديد في مختلف أنشطة الإنسان، وهي التنوع والاختلاف. فإذا كانت العادات الغذائية وتقاليد الملبس والزواج وغيرها من الأفعال الحيوية متباينة حسب أصول المجتمعات ومكتسباتها الثقافية، فإن الظاهرة الإبداعية، خاصة المرتبطة بالفن والأدب، تسعى دائما لدى المبدعين نحو التميز والفرادة. ولعل هذا المطلب الذي لا يُخرج المبدع عن التنويع داخل دائرة الجنس الأدبي أو الفني الذي يبدع داخله،
هو نفسه الذي يدعوه إلى خلق تصاديات وتجاورات مع الأنواع الفنية والأجناس الأدبية التي يراها ملائمة لتطعيم منجزه الإبداعي. يؤكد الناقد جوزيف شتريلكا في كتابه «مناهج علم الأدب» على أن هذا التفاعل المتبادل بين مختلف أنواع الإبداع الفني مهما بلغ مداه لا يُنقص من استقلال كل نوع استقلالا ذاتيا. والبحث في أمور هذا التواصل المدروس بعناية من طرف المبدعين، لا يزال معاني ملقاة في طريق المعرفة تحتاج إلى من يلتقطها ويُخرجها إلى دائرة الضوء، أي لا يزال البحث العلمي في عالمنا العربي على وجه الخصوص يحتاج إلى جهود جبارة لدراسة تلك التواشجات الموجودة بين الفنون والآداب، وبين الفنون بعضها ببعض، وبين الأجناس الأدبية. أبحاث تبتعد عن المقارنات السطحية للسمات الشكلية،
وتعتمد المنحى التطبيقي الذي يغوص في أعمال المبدعين، فيستنطق الفن النابض في جسد الأدب، أو يكشف عن لألاء الصور الأدبية المكنونة في الفنون.يحتاج الباحث العربي في مجالات الأدب والفن اليوم إلى تجديد أسلحته المعرفية والمنهجية للارتحال نحو هذه المناحي البكر، التي تعيد استنطاق الرصيد الهائل من الأدب العربي.
فتقدم لنا معرفة جديدة عن نصوصه ومتونه، على غرار تلك الدراسات العميقة التي تزخر بها المجلات الأكاديمية العلمية الغربية أمثال Poétique، وLittérature، وغيرهما، حيث يمكن أن تعثر على بحوث تثير شهية المعرفة، وتحفز لذة القراءة، لأنها ابتعدت عن التكرار ولوْك الموضوعات المستهلكة في البحث العلمي. هكذا، وفي مثل تلك المنابر يمكن أن تقرأ عن علاقة الموسيقى بفن التصوير Peinture،
وعن علاقة هذا الفن بالأجناس السردية كالرواية، وعن علاقة الموسيقى بالقصة، وعلاقات المعمار بالسرد، وعلاقات التشكيل عموما بالشعر، وعلاقات الأدب بالرقص، وحضور الفوتوغرافيا في الرواية، وغيرها من العلاقات البيفنيةInter artistique ، دون إغفال ملتقى الفنون والآداب: المسرح الذي يتشعب في الفنون ويمتد في الآداب لبسط جمالياته وتعبيريته. وقد عرفت العقود الأخيرة في المغرب والعالم العربي، عموما، بداية تستحق التنويه لهذا النوع من الدراسات الرائدة، التي تؤسس لمفهوم القراءة الجمالية للأدب من منظورات مختلفة عن المألوف في اصطناع المناهج، فبالإضافة إلى مبحث الشعر والتشكيل، الذي لقي صدى واسعا في النقد الأدبي، خاض الباحثون والنقاد في تلك العلاقات المتشابكة بين الفنون والأدب، مثل دراسة «مسرحة الرواية» التي قدمها الدكتور حسن المنيعي في كتابه «قراءة في الرواية»، حيث تتبع نشوء هذه «المسرواية» في الأدب العربي الحديث، ليقف طويلا عند الشكل الرائد للتمسرح الروائي العربي، الذي ظل في حيازة الأديب السوري حنا مينة، خاصة في روايته «النجوم تحاكم القمر».
ثم البحث في تجليات المعرفة البصرية والثقافة التشكيلية في روايتي «الضوء الهارب» لمحمد برادة، ورواية «جيرترود» لحسن نجمي، وهما الدراستان اللتان أنجزهما الباحث وناقد الفن بنيونس عميروش. وبالنسبة للموسيقى،
فإن الجسور التي تمتد بينها وبين الأدب، تتشعب حسب الاختصاص، فقد تكون الموسيقى مدخلا فنيا لرسم معالم منهجية دراسة الأدب، هذا مثلا ما تمثله لنا بوضوح وبكثير من العلمية دراسة تييري مرانThierry Marin الموسومة ب»نحو سرد موسيقي»Pour une narration musicale، والمنشورة في أحد أعداد مجلة Poétique.
وقد استطاع أن يقدم من خلالها تفكيكا لقصة «بينغ» Bing لصمويل بيكيت، حيث يخلص إلى أن السرد في هذه القصة تم إنجازه على غرار طريقة الفن الموسيقي.
وقد بين الباحث كيف أن النص السردي أصبح جهازا خاضعا لمجموعة من التحولات المعتمدة على التكرار والتنويع بين المتواليات السردية والموتيفات، والتي استطاعت أن تخلق في النص بنية زمنية رنانة، أنصت إليها الباحث جيدا، وتمكن من وضع مقابلاتها على شكل نوطات موسيقية، ليؤكد على أن قصة «بينغ» تنمو وتتطور بنفس الكيفية التي تنمو بها قطعة موسيقية تماما.
ومن المعلوم أن فن الموسيقى حظي بتمجيد الأدباء، واعتباره منهلا روحانيا يصب في الوجدان تراتيل الإبداع، ويحرك انفعالات المبدع.
فالموسيقى تقوم منذ مراحل الطفولة ببناء الوعي الفني والذوق الجمالي، وتأسيس ذائقة فنية تكون من أسباب انطلاق شرارة الإبداع. ثم تظل دائما لدى المبدع، فنانا وأديبا، ذلك المقدس الذي يرقى فوق كل صناعة إبداعية.
لقد صرّح بالزاك بأن «الموسيقى وحدها لها القدرة على أن تتغلغل في أعماقنا، أما بقية الفنون فلا تقدم لنا سوى مسرّات عابرة»، وربما أدرك هذا الأديب الفرنسي الكبير أن الموسيقى تمس جميع المشاعر المتناقضة أو المنسجمة بداخل النفس الإنسانية.
أما الإبداع الأدبي فهو رهين الشعور الخاص الذي تبثه القصة أو القصيدة أو غيرهما. وربما لهذا السبب حاول بعض الأدباء العالميين ركوب مغامرة الإبداع الموسيقي عزفا وتلحينا، مثلما فعل الشاعر الإسباني المعروف فيديريكو غارسيا لوركا، الذي «تعاون مع الموسيقي الإسباني المعروف مانويل دي فايا، في البحث عن جذور الموسيقى الأندلسية.
وكان لوركا موسيقيا موهوبا، يجيد العزف على البيانو، وله مؤلفات موسيقية هي بين مقطوعات مؤلفة لآلة البيانو، وأغان تؤدى بمصاحبة البيانو، وأغاني المجموعة (أو الجوقة)، وغير ذلك (…) ومواهبه الموسيقية كانت واعدة جدا وتؤهله لأن يُصبح في عداد الموسيقيين اللامعين في وطنه والعالم، من أمثال مانويل دي فايا، وألبينيز» (من كتاب علي الشوك «أسرار الموسيقى»).
تتمثل قوة الموسيقى، التي تسحر ألباب الشعراء والأدباء عموما، في التجرد التام من الموضوع. لقد كان العديد من الأدباء يغبطون الموسيقار العالمي بيتهوفن لأنه يستطيع أن يقدم إبداعا ثوريا، ويفلت من الرقابة بيسر شديد.
أما الكلمة، فهي «فاضحة» وكاشفة، ولعل أول ما تكشفه هو نفسية المبدع وتركيبة شخصيته، وقد سعى الكثير من المبدعين إلى وضع جملهم الشعرية أو السردية في قوالب ومقامات موسيقية، لتعبر عما يضطرب في أغوار الوجدان،
فحتى قبل أن تؤدي الفنانة الكبيرة السيدة فيروز بجمالية نغمية عالية رائعة جبران خليل جبران «أعطني الناي وغن»، فإن هذا النص الشعري في أصله معزوفة قوية، ذات مركبات صوتية ترسم ظلال الحزن الذي يرافقنا ونحن ننشُد البحث عن سر الوجود، أو عن سر الخلود.