إن الاستقلالية في الفن هي الباعث الحقيقي للمفهوم الدقيق للبرغماتية الفكرية التي تستفرد بها الذات لحظة تخمرها مع أناها المفرط في إنيته. فالرسام مثلا يقوم بإنتاج أعمال تجريدية وفقا لنسق فيلمي مرسوم في الفكر حسب مونتاج متشابك غالبا ما تفرضه الأحاسيس في لحظة حسية معينة, ثم تفسر بعد ذلك تفسيرا عقلانيا قد لا يعطي لذلك العمل الحد الأدنى من قيمته كاستنباط و توليد وحدس لشيء ما, هو ذلك بالضبط ما يؤسس إلى ولادة مفهوم “الإبداع المنقوص”.
فالإبداع في الفن التشكيلي مثلا هو التوغل في ثنايا المناطق المحرمة التي يريدها العقل أحيانا وهو في نفس الوقت التشفي في تلك الأحاسيس التي لا يريد الشعور الكشف عنها, أما في الفنون السمعية البصرية فالمسألة تقنية بامتياز إذ لا يمكن الحديث عن فيلم إلا إذا كان حضور المونتاج فيه حضورا أساسيا, فالحقيقة ليس في ربط الأحداث ببعضها البعض وفق كرونومترية منظمة بل في كيفية ربط تلك الصورة المرئية والمسموعة بموضوع ما.
فالموضوع في الفنون السمعية البصرية كالسينما و المسرح يعتبر المنطلق الأساسي للعمل الفني, في حين يكون الموضوع في الفنون التشكيلية أحيانا مجرد نتيجة متحصل عنها بعد تيه فكري يمليه اللاشعور باليد.خلق الله الإنسان وحمله في البر والبحر وكرمه على جميع مخلوقاته، ووهبه منحا عديدة من العقل والتدبر والتأمل والتفكر والقدرة على المحاكاة وصولا للابتكار.
ورغم قدرة الإنسان على ابتكار أشياء عديدة مدهشة إلا ان ابتكاره ينطلق اولا من القدرة عل محاكاة الطبيعة، فالفنان التشكيلي بما وهبه من حس جمالي وتدفقات شعورية يستنطق جمال الطبيعة في مختلف الوانها وتشكيلاتها الفنية ويحاكيها ثم تتشكل لديه بصمة فنية خاصة به تشكل رؤيته لنفسه وللكون من حوله.
كما تحتضن اذن الموسيقي صوت خرير المياه وصهيل الخيل وتغريد البلابل واصوات البرق والرعد وتراتيل الكروان فيخزن في ذاكرته السمعية هذه الانغام ويحاكيها ثم يضفي عليها من ورحه الخاصة ما يشكل ابداعا خاصا به.
هكذا الإنسان يتفاعل مع الطبيعة والكون والمجتمع ثم يشكل تجربته الفنية الخاصة به في مجالات الفنون والآداب، وكما يتفاعل الانسان مع محيطه الانساني ومع مفردات الطبيعة، يأخذ منها ويعطيها أثرا وتأثيرا، فان الفنون والاداب تتفاعل هي الاخرى مع بعضها وتتبادل التأثير والتأثر في سياق التكامل الفني والابداعي.
وفي خضم حياتنا اليومية وصراعاتها السياسية والاقتصادية والامنية ومادياتها الخانقة للارواح والانفس، فان انسان هذا العصر يجتاحه الحنين للجمال كوسيلة لتفريغ الشحنات السالبة في عالمه اليومي، وهذا الجمال نجده في كل ما هو طبيعي من مناظر طبيعية والوان زاهية وصفاء بحار وسماء وزقزقة عصافير، كما يجده في كل ما هو مبتكر وخلاق من الإبداعات الفنية والأدبية التي تغذي روحه وتحقق له الإشباع الفني.
من هنا تأتي أهمية الآداب والفنون في حياتنا لتسكب ماءا مثلجا بردا وسلاما علي عقولنا وأرواحنا ومشاعرنا الملتهبة، فتطفئ لهيب الحياة وتمنحنا الاستقرار والهدوء النفسي، ونتشرب كئوس العلم والتذوق والجمال والمحبة بصفاء ذهني وقلبي وروحي معا.
فالآداب والفنون لاشك أنها تسهم في تنمية مواهب الإنسان و توسيع خياله بما يكتسبه من مهارات وخبرات. كما أنها تؤدي أدوارا رئيسية في تهذيب الذوق انطلاقا من رؤيتها الجمالية التي تسمو بالإنسان.
وهذا مما نجده من معاني الأدب في ” المعجم الوسيط ” وحيث يعبر عن ثلاثة معان للفظ “أدب”:
المعنى الأول: رياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي.
المعنى الثاني: الجميل من النظم والشعر.
المعنى الثالث: كل ما أنتجه الإنسان من ضروب المعرفة.
ولاشك ايضا ان تشرب الأفراد والمجتمعات للآداب والفنون يغذي عقولها وينمي افكارها وثقافتها ومن يمنحها ملكات التمييز بين الجمال والقبح ويخلق ملكات النقد الموضوعي لديها بما تكتسبه هذه المجتمعات من قيم اخلاقية وحضارية تحافظ بها على رقيها الانساني وتحقق به الاستقرار النفسي والسياسي ايضا، خاصة وان متذوقي الفنون والاداب اكثر تحضرا وتوازنا نفسيا وسلوكيا ويميلون كما تؤكد الدراسات العلمية الى الالتزام بالقانون ورفض العنف.
المرآة العاكسة
وبقدر ما تشكل الفنون والآداب عقولنا ووجداننا، فإنها في نفس الوقت تمثل مرأة تعكس واقعنا في أفراحه وأتراحه وانتصاراته وانكساراته وترديه وتطوره، فتوقظ ضمائرنا لنعرف عيبوبنا فنبادر الى إصلاحها، غير ان خيال المبدعين أيضا قادر على التحليق بنا الى اعلى درجات و أيضا إبراز القيم و زرع الأخلاق الفضيلة و غرس القيم والطموح بلا سقف مما يقود المجتمع للتطور والنهضة والأمان.
ولطالما كان الأبداع الأدبي والفني حافزا للشعوب على مقاومة المستعمر وحشد همة الشعوب نحو القضايا الوطنية والالتفاف لإعادة بناء الأوطان والحفاظ عليها.
ولان الأوطان العربية في معظمها مستهدفة التشظي الفكري والانقسام الفكري والمذهبي، فان الحكومات العربية كلها مطالبة بحشد طاقاتها في دعم الفنون والآداب لإعادة تشكيل المجتمعات ضد مخاطر الأعداء وعلى رأسهم الإرهاب وتسميم عقول الشباب بفكر الموت.
فالآداب والفنون يمثلان الحياة وشاطئ الأمان لكل المجتمعات يحفظ عليها امنها الروحي والعقدي والإنساني. من هنا، يمكن القول: إنَّ مبدأ (نقاء الأجناس) لم يعد ذا أهميَّة منذ سيادة الرومانسيَّة، التي رأت في المزج بين الأجناس الأدبيَّة قانوناً طبيعيَّاً في أيّ تحوُّل أدبيّ وثارت على (نقاء الأجناس)، حتى إنّ بعضهم شكَّك في إمكانيّة وجود (جنس أدبيّ)، فمع ظهور المرحلة الرومانسيّة بدأت التساؤلات حول مبدأ (نقاء الأجناس)؛ إذ قوَّضت دعوى الكلاسيكيّة، ودعوى (أرسطو) القائلة بصرامة الحدود بين الأجناس الأدبيّة، ودمجت (المأساة) بـ (الملهاة)، اللتين أصرَّ المذهب الكلاسيكيّ على الفصل بينهما، ومنذ ذلك الوقت بدأ الجدل بخصوص الأجناس وقواعدها، بين مشكِّك بجدواها ومدافِع عن ضرورة تهاو من النقّاد الذين لم يعترفوا بالقواعد الفاصلة بين الأجناس الأدبيَّة الناقد الإيطاليّ (كروتشه)، الذي نفى ما يسمَّى (أجناساً أدبيةً)،
وذهب إلى أنَّ التقسيمات التي وضعها النقّاد كانت تقسيماتٍ مدرسيّةً لشيءٍ لا يمكن تقسيمه، ولن نخسر شيئاً إذا أحرقنا كلَّ مجلَّدات تصانيف الفنون ومنظوماتها ومن الذين رفضوا مبدأ (نقاء الأجناس)، أيضاً، الكاتب الفرنسيّ (موريس بلانشو)، الذي حاول التخفيف من سلطة هذه الأجناس، وأبدى رغبة في استبعادها، وذهب نفرٌ من الدارسين إلى أنّ (بلانشو) لم يقصد إلى انقراض الأجناس مطلقاً من الأدب، وإنما أراد أن يخفِّف من حدّة القيود والضغوط، حتى يشعر الأديب بحريَّة أكثر؛ ليراوح بين أجناس مختلفة
وهكذا نجد أنَّ الجِنْس الأدبيّ انتقل من مرحلة الصّفاء والنقاء مع الشعريّة اليونانيّة إلى مرحلة وحدة الأجناس الأدبيّة مع الرومانسيّة إلى مرحلة الاختلاط والتهجين والتلاقح. الفن عبارة عن مجموعة متنوعة من الأنشطة البشرية في إنشاء أعمال بصرية أو سمعية أو أداء (حركية)، للتعبير عن أفكار المؤلف الإبداعية أو المفاهيمية أو المهارة الفنية تشمل الأنشطة الأخرى المتعلقة بإنتاج الأعمال الفنية نقد الفن ودراسة تاريخ الفن والنشر الجمالي للفن الأدب هو جزء أساسي في هذه الثقافة العامة – المفتوحة، وتأخذ كتابة الأدب أشكالاً متعددة ومتنوعة في حاضرنا،
فثمة أطروحات وآراء الآن – وغداً – تلغي الحدود بين الأجناس الأدبية وحتى الفنية تحت بند التجديد، مثل استخدام التقنيات السينمائية في الرواية، وغيرها الكثير مما نشاهده كل يوم. وإزاء هذا التحوّل يبرز السؤال: هل أفرزت هذه الأطروحات والآراء، وما لحق بها من تجارب، أي تجديد يمكن إضافته للأدب؟ وهل يمكن أن يتمخّض ذلك عن شكل أدبي جديد، أو الوصول بآدابنا إلى آفاق مغايرة؟