إن العمران البشري بالمعني الفلسفي المقاصدي ينبني على مرتكزين: “فهو، من جهة، عبارة عن قوانين ومبادئ عامة تقصد الوصول إلى طريق الصدق والصواب في نقل الوقائع والوثائق وأخبار الماضي، ثم استخلاص مقاصدَ منها دافعةٍ إلى التجديد في البناء الاجتماعي والإنساني؛ والعمران من جهة أخرى هو الاجتماع الضروري للإنسان الذي يعبر عنه الفلاسفة بقولهم: “الإنسان مدني بالطبع”؛ أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم، وهو ما ركب في طباعهم وجبلَتهم من التعاون على المعاش والسير في الأرض، وتشييد المرافق الدينية والمدنية بما يليق بمهمة الاستخلاف.
وقد بين ذلك عبد الرحمن ابن خلدون في “المقدمة” بقوله: “الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته، وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله. إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، غير موفية له بمادة حياته منه. ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة، مثلا، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ.
وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حبا من غير علاج، فهو أيضا يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، من الزراعة والحصاد والدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل. ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير.
ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد، فلابد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف، وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه”..
إن محاولة الإجابة تستدعي في بادئ الأمر تحديدا فلسفيا لمفهوم العمران البشري بما ينسجم مع شمولية هذا المفهوم، واستبطانه لكافة العلائق التي ينسجها الإنسان مع المحيط الحيوي من أجل إنتاج الثقافة وتحقيق الاجتماع البشري، ذلك أن كثيرا من الأمثلة التطبيقية تبرز الترابط الجدلي بين الفكر والعمران بمنطق عملي. هذا يستدعي التعمق النظري في المسألة العمرانية من منظور فلسفي مقاصدي، وتتبع المفاصل العمرانية الكبرى في الحضارة الإسلامية بمنطق فلسفة التاريخ، وصولا إلى ربط الأفكار بالنتاج العمراني جدليا من أجل البحث عن طبائع العمران وفهم مشكلاته ومنطقه، واستشراف الآفاق المستقبلية في العملية العمرانية وفق فلسفة الاستخلاف.
وتؤسس مفاهيم النظر والتحقيق والتعليل وعلم كيفيات الوقائع وأسبابها، جهازا تصوريا يخرج التاريخ من حيث هو خبر في الماضي إلى كونه ظاهرة للبحث والتحليل والاستنباط، وبهذا يكون التاريخ تجاوزا للتاريخ؛ تجاوزا يؤكد انتماء التاريخ لعلوم الحكمة وما تقتضيه من إعمال عميق لعقل تجريبي ينتج عنه بالضرورة عقل مصلحي يقدِّر بعلمٍ قوانينَ المنافع والمضار في دورة العمران البشري الدائمة من نشوء ونمو وانحطاط واندثار. والتاريخُ عند ابن خلدون هو وعي بتحولات العمران البشري ضمن جدل عقل مصلحي يميز في العملية العمرانية بين الضروري والحاجي والتحسيني،تبعا لذلك، يرتبط البحث التاريخي عند ابن خلدون بالمنهج المقاصدي الذي يتجاوز النظر في ظاهر الشريعة لينفذ إلى باطنها..[3]“؛ وقد طبق ابن خلدون منهجا مقاصديا في تفسيره للتاريخ، وحرص على إعمال المقاصد في النماذج التطبيقية التي أوردها في المقدمة،
مما يدل على إدراكه العميق لأهمية المقاصد الشرعية في رفد العمل الاجتهادي المتعلق بالبحث التاريخي وفلسفة العمران البشري؛ والظاهر أن هذا المنهج مستمد، في بعض جوانبه، من الفقه المالكي الذي يعتبر المقاصد الشرعية أصلا من أصوله العقلية، وقد عمل ابن خلدون على توظيفها في منهجه الفاحص للاجتماع الإنساني، فخلص إلى أن من الأسباب الموقعة للمؤرخين في الكذب: الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب.
وإذا اعتبرنا أن النظرية نسقٌ فكري استنباطي متسق حول ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات المتجانسة، يشمل إطارا تصوريا ومفهومات وقضايا نظرية توضح العلاقات بين الوقائع وتنظمها بطريقة دالة وذات معنى، كما أنها ذات بعد تجريبي لاعتمادها عل الواقع ومعطياته، وذات توجيه تنبُّئي يساعد على تفهم مستقبل الظاهرة ولو من خلال تعميمات احتمالية، فنظرية ابن خلدون،
وفق هذه الرؤية، “نسق فكري متسق حول العمران والإنسان يتكون من قضايا ومفاهيم توضح العلاقات المنظمة والمتحكمة في تفاعلهما وثباتهما وتغيرهما. ويمكن القول أن العمل الخلدونيّ بدأ بما بعد النظريّة، عندما طلب تأسيس نسبة التاريخ إلى الحكمة، بما يمكن أن نطلق عليه اسم: “نقل فَنِّ التاريخ من جنس فَنِّ الأدب إلى جنس فَنِّ الفلسفة”
وانطلاقا من فاعليات المقاصد في الحفظ والوزن والوصف والبناء والتقويم، بعضها من بعض؛ تتحقق منظومية المقاصد العمرانية ونظامها، فتحدد بذلك مناط فاعليتها وتفعيلها؛ الحفظ لدافعية العقيدة والواصل لعناصرها والضام لمكوناتها؛ أي عقيدة يلتئم عبر تمثلها عالم الأفكار بعالم الأشخاص والأشياء بشكل جدلي يفضي إلى ازدهار العمران؛
إن عقيدة لا تدفع، هي إهدار لمعنى العروة الوثقى، وإهدار للعقيدة وعيا وسعيا؛ والحفظ لرافعية الشرعة والواصل بين خصائصها التكوينية والقيام بتفعيل قواعده الكلية. إن شريعة لا ترفع، هو إهدار لمعنى مقاصد الشريعة حينما تأتي لتخرج المكلف عن داعية هواه فترفعه تكريما واستخلافا وأمانة ومسؤولية، فالشريعة الرافعة: حكمة كلها وعدل كلها ورحمة كلها ومصلحة كلها؛ والحفظ لحاكمية قيم الإسلام التأسيسية (التوحيد والتزكية والعمران) والأساسية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشورى، والاختيار) والقيم العليا (الممثلة في العدل) الناظم لأصول منظومة القيم وتصاعدها وتكافلها وتفاعلها؛
إن قيما لا تحكم هي إهدار لمعنى مقاصد القيم؛ لأنها إهدار لعموم الدين (الدين القيم)؛ والحفظ لمعاني جامعية الأمة والواصل بين معاني اعتصامها بحبل الله، والضام لمعاني خيريتها ووسطيتها وشهودها الحضاري؛ إن أمة لا تجمع هي فاقدة لأصول معانيها في الأَمّ والقصد، وهو إهدار لمقاصد الأمة في الوجهة والقبلة؛ إن أمة لا تجمع ليست من جامعية الأمة في شيء، وإن تحول جامعيتها إلى نقيض مقصودها في التنازع مقابل الاعتصام، والفشل مقابل الفاعلية، وذهاب الريح في مقابل الأثر والتأثير والتمكين، إنما يعبر عن إهدار مفهوم الأمة في الوعي والسعي كل ذلك يحيلنا، إلى النظر في العمران باعتباره نموذجا إرشاديا Paradigme على ما يشير إليه ذلك من تأصيل رؤية كلية للوجود والكون والعالم، والإشارة إلى بناء فلسفي نظري، و منظومة مفاهيمية متكاملة، كما أنه يشير إلى أجندة بحثية شاملة وقصدية.. إننا بلا شك أمام رؤية كلية شاملة للظاهرة العمرانية والإنمائية تبحث في عناصر التنمية الشاملة والتنمية البشرية، فتؤصل القاعدة وتحدد المجالات، وتستشرف المستقبل..
إن علم العمران، علم رئيس science Architectonic، ويمكن تحديد وحدته بالقياس إلى وحدة كتاب أرسطو في ما بعد الطبيعة؛ بسبب تماثل الدور بين العلمين، ودلالة ما أشار إليه ابن سينا من ضرورة تسمية علم ما بعد الطبيعة بعلم ما قبل الطبيعة. فيكون العلم الخلدوني الجديد علم ما قبل التاريخ، وليس علم ما بعده، وهو إذن في منزلة الفلسفة الأولى التي أصبحت من وظائف فلسفة التاريخ، لا فلسفة الطبيعة؛ تقديماً للموقف العمليّ على الموقف النظريّ، واستبدالا للمنظور الديني بالمنظور الفلسفي، الذي يقدم النظريّ على العمليّ؛ ولما كان ما قبل الطبيعة هو علم مبادئ الطبيعة، وعلم مبادئ علمها، فكذلك يكون علم ما قبل التاريخ: علم مبادئ التاريخ، وعلم مبادئ علمه
وانطلاقا من أركان العقيدة الاستخلافية وهي: ركن الوجود، وركن المعرفة، وركن عدم التأثيم، والحسم النظري للحرب الأهلية بين المسلمين، وإنهاء الحرب الأهلية بين البشر لرعاية الكون بما يليق بالاستخلاف، نقول أن مقاصد العمران في المنظومة المرجعية الإسلامية، والتي هي إنسانية بطبيعتها، تروم تحقيق الانسجام بين الإنسان والكون بمنطق جدلي على اعتبار أن الإنسان أُنشئ من الأرض واستعمر فيها، فلا غرابة أن يكون منطق هذا العمران تحقيقا لجدلية الغيب والإنسان والطبيعة بفضل من الله، ذلك أن الإنسان خرج من رحم الطبيعة بالخلق، ووجب أن يعود إليها بالوعي حسب الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، وهنا مقصد كبير من مقاصد العمران..
لقد حدد العلامة ابن خلدون في مقدمة تاريخه العوامل الحاكمة في التطور الإنساني عبر العصور وهي المكان والزمن والبشر، المكان؛ أي الجغرافيا؛ أي الأرض والموقع والمناخ والموارد؛ والزمان بمعنى التاريخ؛ أي تواريخ الشعوب والحضارات والصراعات والأفكار والعلوم، والبشر؛ أي الأمم والشعوب، والمجتمعات..
دكتور القانون العام والاقتصاد
وخبير امن المعلومات
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان
Virus-free. www.avast.com