إن الأسرة هي النواة الأولى واللبنة الأولى في بناء المجتمع الإسلامي وبناء الحياة الإسلامية، الأسرة هي أساس المجتمع، وفي ظلال الأسرة يتربى الفرد الصالح وتنمو المشاعر الصالحة، مشاعر الأبوة والأمومة والبنوة والأخوة. ويتعلم الناس التعاون على الخير وعلى البر في ظل الأسرة. على الرغم من أن الأسرة وحدة اجتماعية صغيرة إلا أنها أساس وجود المجتمع وأقوى نظمه، فهي المهد الحقيقي للطبيعة الإنسانية، فالأسرة تقوم بوظائف عديدة تتصف بالتكامل والتداخل، وقد كانت الأسرة في الماضي تقوم بكثير من الوظائف التي يقوم بها المجتمع حالياً. تعريف الأسرة: قبل أن نبدأ بالحديث عن الأسرة واجباتها ووظائفها وأهميتها
لا بد من أن نقوم بتعريفها لغة واصطلاحاً، فالأسرة لغة: مشتقة من الأسر أو القيد الذي يقيد أو يربط به، أما في اصطلاح الدعاة فإن الأسرة يراد بها نفر من المسلمين يتعارفون فيما بينهم، ويلتقون على طائفة من المناشط الفكرية والسلوكية تستوعب الحياة كلها، وتؤهل العمل الجماعي من أجل استئناف حياة إسلامية كريمة تصان فيها الدماء والأموال والأعراض،
ويقام فيها حكم الله عز وجل في الأرض. ولقد ظل عيش المسلمين على النحو الذي رسمنا طوال عصور الإسلام الزاهرة، ثم أتى على المسلمين زمان تحولت فيه مبادئ الأخوة الإسلامية من عقد نافذ وحقيقة واقعة إلى كلام على الألسنة وإلى خيال في النفوس، وظلت الحال كذلك حتى أذن الله لهذه الأمة أن تبعث من جديد على يد المصلحين من أبنائها. وإذا بنا في الرجل يعمل جاهداً على أن تكون الأسرة المحضن التربوي الأصيل في عملية البعث الإسلامي اقتداء وتأسياً بالنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم.
أهمية الأسرة ومكانتها في الإسلام: بعد أن اتضح معنى الأسرة في اللغة والاصطلاح، نتحدث الآن عن أهمية الأسرة ومكانتها في الإسلام، فنقول إن سنة الله عز وجل في الخلق اقتضت أن يكون قائماً على الزوجية، فخلق الله سبحانه وتعالى من كل شيء زوجين
قال تعالى: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)، الذاريات ٤٩. كما أودع عز وجل ميلاً فطريّاً بين زوجي كل جنس، فكل ذكر يميل إلى أنثاه، والعكس، وذلك لتكاثر المخلوقات واستمرار الحياة، وجعل ميل الرجل إلى الأنثى، والأنثى إلى الرجل مختلفاً عن باقي الكائنات الحية، فالميل عند الإنسان غير مقيد بوقت ولا ينتهي عند حدّ الوظيفة الجنسية، وذلك لاختلاف طبيعة الإنسان عن طبيعة الحيوان، فالصلة القلبية والتعلق الروحي عند الإنسان مستمر مدى الحياة. ولما كان الإنسان مكرماً مفضلاً عند الخالق عز وجل على كثير ممن خلق، فقد جعل تحقيق هذا الميل عن طريق الزواج الشرعي فقط، ولهذا خلق الله آدم عليه السلام وخلق منه حواء. قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) الأعراف:١٨٩
.. وهكذا كانت أول أسرة في التاريخ البشري. فالأسرة هي الخلية الأولى في جسم المجتمع، وهي المجتمع الصغير، لأن المجتمع الكبير مكون من مجموعة أُسر، وعناصر الأسرة هي الزوجان والأولاد، وليس المجتمع في نظر الإسلام أفراداً متناثرين لا تربطهم روابط، بل هو جملة من المجموعات تؤلف كل منها رابطة النسب، ثم تجمع بينها كلها رابطة الروح بالأخوة الدينية. ونظراً لأهمية الأسرة عرف الإسلام لها قدرها، وقرر لها مكانة عظيمة تتجلى في الاهتمام بشؤونها في كتاب الله، كما أحاط الإسلام الأسرة بجملة كثيرة من التشريعات لتؤدي وظيفتها على الوجه الأكمل.
علاقة الدولة بالأسرة والأبناء: أولت الدولة الاهتمام بالأسرة من جميع النواحي كدعم أنماط الحياة الصحية للأسر، وتعزيز الوقاية الصحية، وتشجيع اللياقة البدنية، وتعزيز الثقافة البيئية، ومعالجة للمعوقات الاجتماعية، وتعزيز قدرات المرأة لتمكينها من المساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للأسرة والمجتمع، وتأسيس مراكز تنمية المهارات وإعداد برامج وأنشطة تخص الأطفال والشباب، وتطوير قدراتهم الثقافية والسلوكية والاستفادة من خبرات المسنين لأجل حياة أسرية مستقرة.
أخيراً، الأسرة هي الخلية الحية في كيان المجتمع البشري، تحيط بها تيارات مختلفة قد تكون إيجابية بناءة، وقد تكون سلبية هدامة ما يهدد المجتمع كله. والأسرة تتكون من الأب والأم والأولاد أو الزوج والزوجة فقط، وكل فرد في الأسرة له دور فعال في حفظ كيان الأسرة، حيث يؤثر فيها ويتأثر بها .. والأبوة اليقظة والقلب المفتوح حماية للأبناء وبناء لمستقبلهم، فإحساس الأبناء بالحب يحميهم من أي انفعال عاطفي طائش ربما يعرضهم للهلاك. فالأبناء دوماً في حاجة للالتزام والانضباط كي لا تتسيب الأمور.
ويجدر ان نقف وقفة خفيفة مع ما شرعه الإسلام حفاظا على كيان الأسرة واستقرارها ومن هذا أن دعا للزواج والتزواج واعتبره سنة ثابتة لجميع الكائنات قال سبحانه: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3]
وقال عزّ شأنه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]، وقال بصفة العموم: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]، والزواج يعني السكن والطمأنينة والهدوء من عواصف الحياة وامواجها العاتية التي تلفح بشهواتها الأفراد ويغرق في بحر شبهاتها الضعفاء، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. فتكوين الأسرة دين، والحفاظ عليها إيمان، ومكافحة ما يهدد كيانها جهاد.
من هنا كانت عناية الإسلام بالزواج وسيلة لاستقرار الأسرة وراحة الأفراد فشره ما يزكي هذه العلاقة ووضع لها ضوابط اختيار الزوجين ورغب أن يكون الدين هو المعيار فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ».
وكما في الحديث المتفق عليه -عند البخاري ومسلم- من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ”. الأسرة هي وحدة التحليل الأساسية في علم الاجتماع وفي دراسة الحياة الاجتماعية ودراسات المجتمع الإنساني. وإذا كانت بعض مدارس علم الاجتماع مثل مدرسة الفعل الاجتماعي التي يتزعمها
« ماكس فيبر » في ألمانيا يرون أن وحدة التحليل السوسيولوجي هي الفعل الاجتماعي، فإنه لا شك أن الوحدة الأساسية على مستوى دراسات الجماعات الاجتماعية هي الأسرة التي يمكن دراستها وتحليلها استناداً إلى الأفعال الاجتماعية التي تصدر عن أعضائها، تلك الأفعال التي تؤدي إلى ظهور التفاعل والعلاقات والمراكز والأدوار والضوابط والالتزامات ونظام السلطة والقوة داخلها. إن الإسلام يحث الإنسان على أن يكون أسرة صالحة وأن ينشئ بيتاً سليماً، ومن نتائج ذلك أن ينجب الذرية، وأن تتسع دوائر القرابة، وتنبثق من الأسرة الصغيرة فيما بعد أسر أخرى وهكذا، وعلى هذا فإن المسلم مطالب حين يفكر بالزواج أن يحسن اختيار الزوجة الصالحة، بوصفها عنصراً أساسياً لتكوين أسرته التي ستكون صلة له بعد وفاته، وبهذه الأسرة التي ينشئها يحمل جزءاً من مسئولية عمارة الكون الذي يحيا فيه بتكثير سواد المسلمين، وإنشاء الأمة المكلفة بإقامة حكم الله في الأرض.