كانت مناهجنا الدراسية حتى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى تغرس فى نفوس التلاميذ دروسا عن القيم الإنسانية الراقية : العفو والتسامح والتراحم والتواضع والتعاطف الإنسانى ومساعدة المحتاج وما إلى ذلك، تبثها بثا فى وجدان التلاميذ بشكل مباشر وغير مباشر، لتنشئتهم عليها من خلال آيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو قصص هادفة، أو أبيات من الشعر مختارة بعناية، لا أعرف ماذا تقول مناهجنا للتلاميذ اليوم، لكن ما نراه من غلظة فى المشاعر وعنف وتنمر وعدوانية فى الفضاء العام ينبئ عن جفاف المناهج، وخلوها من هذا البعد التربوى المهم.
كانت كتب القراءة على أيامنا تحدثنا عن امرأة دخلت النار فى هرة حبستها، ورجل دخل الجنة بسبب كلب سقاه، وتلاميذ مدرسة تعاونوا ليشتروا مقصفا زجاجيا لبائعة الحلوى العجوز، وما شابه ذلك، ولا أنسى ما حييت بيتين من الشعر وردا من خارج المنهج فى ورقة امتحان اللغة العربية للثانوية العامة القسم الأدبى صيف عام 1973 لاختبار قدرة الطلاب الذين وصلوا إلى هذا المستوى التعليمى على الاستيعاب والفهم فى علمى البلاغة والنحو، يقول البيتان :
أشقى لمن حملوا الشقاء كأنما
أتراح كل أخى ضنى أتراحى
ووددت حين هوى جناح حمامة
لو حلقت من خافقى بجناح
إلى هذا الحد كان اهتمام المسئولين عن التعليم بتربية وجدان النشء على التراحم والتسامح والتعاطف مع المصاب والعاجز وذى الحاجة، وقد كان من شأن هذه التربية أن تخفف من غلواء العنف وغلظة القلوب وقسوتها، وتربى إنسانا سويا، جديرا بأن يكون إنسانا، يتعامل مع الناس بمشاعر إنسانية، وتبنى مجنمعا متحابا مترابطا، وأمة كتلك التى بشر بها نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم فى قوله : ” مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر الحمى ” .
أقول هذا بمناسبة الانتقادات الحادة التى تعرضت لها سيدة الدقهلية قاتلة أولادها الثلاثة، والتى تبين أنها تعانى من اكتئاب شديد سبب لها خللا فى قدراتها العقلية، أصابها باليأس والإحباط، وأغلق فى وجهها أبواب الرجاء، وبدلا من أن نأسى لحالها، ونمد لها يد الدعم المعنوى، وننظر إليها بعين الرحمة وهى فى قمة المأساة، راح البعض يحاكمونها على مواقع التواصل الاجتماعى، ويصدرون عليها العقوبات ألوانا، ويرجمونها باتهامات وقحة .
هذه السيدة المنكوبة جامعية متزوجة من شاب يعمل بالسعودية، وابنها الأكبر ـ 10 سنوات ـ مصاب بالتوحد، ويبدو أنها تعيش وحيدة مع مأساة ابنها، وتتحمل مسئولية ثقيلة أكبر من قدراتها، وليس لديها أسرة تساندها فى محنتها، أو أن أسرتها غير مدركة للدور المنوط بها تجاه ابنتهم، فالكل مشغول بهمومه، وقطعا لم تكن هذه المسكينة فى وعيها عند ارتكاب الجريمة، أو الجرائم المتتالية، فقد عثرعليها الأهالى ملقاة على الطريق مصابة بجروح قطعية فى أجزاء متفرقة من جسدها بعد محاولة انتحار فاشلة، وبعد أن ذبحت أولادها الثلاثة فى المنزل، وهى قطعا سوف تقدم للمحاكمة، لكن الواجب الإنسانى كان يفرض على المجتمع أن يكون رحيما بها، ففى النهاية نحن أمام مأساة إنسانية لأسرة بائسة.
ومما يثير الشفقة أن السيدة تركت رسالة لزوجها تقول فيها إنها أرادت بقتل الأولاد أن تدخلهم الجنة لأنهم شهداء، وأنه أيضا سيدخل الجنة لأنه لم يقصر معها ومع أولاده، واعتبرت نفسها أنها المقصرة مع الأولاد، طالبة منه أن يسامحها، وداعية له بأن يمن الله عليه بأطفال أفضل من أطفالها، ثم يأتى رد فعل الأب المكلوم فى أبنائه وزوجته على عكس المتوقع فى مثل هذه الظروف، فقد عاد من الخارج على الفور، وظل متماسكا صابرا، لم يظهر أى مشاعر غضب أو لوم تجاه الأم، بل كان أكثر رحمة بها من المجتمع، وقال فى كلمة له قبل صلاة الجنازة على أولاده فى مسجد القرية : ” أرجو أن يمن الله على أم أولادى بالشفاء، ويغفر لها ويرحمها، فقد كانت أحرص الناس على أولادها، لم أشهد منها إلا كل خير “.
يقول أطباء النفس فى مثل حالة هذه السيدة إنها مريضة باكتئاب مابعد الولادة، وهذا المرض يمتد لستة أشهر، وقد يمتد لمدة عام، وهذا الاكتئاب يحدث اضطرابا فى تفكير المرأة، بحيث تعجز عن اتخاذ قرارات سليمة أو التفكير بشكل سليم، وإذا وصل إلى درجة معينة من الحدة قد يدفع إلى قتل النفس وقتل الآخرين أحيانا، وللأسف لا تلتفت الأسر إلى هذا المرض لانخفاض الوعى به، وغياب ثقافة المعرفة بالأمراض النفسية فى بلادنا بصفة عامة .
لقد أمرنا بأن نرحم الناس حتى يرحمنا الله تعالى، ومن لايرحم لايرحم، وأمرنا بأن نلعن الذنوب والمعاصى ولا نلعن المذنبين والعصاة حتى وإن أقيم عليهم الحد فى الكبائر، وقد كان من تعاليم السيد المسيح عليه السلام : ” أبغض الخطيئة وأحب المخطىء “.