كتبت كثيرا عن الشيخ محمد الغزالى رحمه الله، وقرأت أكثر له وعنه، وأحب العودة إليه كلما سنحت لى الفرصة، فهو العالم المجدد الورع، الذى حباه الله عقلا متفتحا مستنيرا، ونفسا راضية مطمئنة، لم ألتق به غير مرات معدودات، كان أولها فى بيته العامر بالدقى خلال النصف الثانى من ثمانينيات القرن الماضى، لإجراء حوار صحفى معه بعد عودته مباشرة من زيارة لطهران ضمن مجموعة من كبار العلماء بذلوا جهودا للوساطة بين إيران والعراق لوقف الحرب الدائرة بينهما آنذاك، فى هذا اللقاء سيطرت على تفكيرى المقارنة بين العالم الزاهد الشيخ عبدالحميد كشك ـ رحمه الله ـ الذى يعيش فى شقة متواضعة، وبين الشيخ الغزالى الذى يعيش حياة عصرية مرفهة، لكن سرعان ما ثبت إلى رشدى، وأيقنت أن الإسلام فى حاجة إلى كليهما، وكل ميسر لما خلق له.
قرأت تقريبا معظم كتب الشيخ الغزالى، ووقفت على كثير من أطروحاته لتجديد الفكر ـ أو الفقه ـ الإسلامى، وتابعت بحكم عملى واهتماماتى معاركه الفكرية، فما وجدت فيه إلا عالما فذا ذكيا، سابقا لعصره، قويا فى دفاعه عما يعتقد أنه الحق والعدل، وفى دفاعه عن الإسلام الصحيح فى مواجهة تيار الجمود والتطرف وتيار التفريط والانحلال.
فى عام 1989 أصدر الشيخ كتابه الشهير ” السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ” فأحدث ضجة كبرى بسبب ما تضمنه من آراء جريئة لإنصاف المرأة ، فى ذلك الوقت كان هناك جدل واسع حول حق المرأة فى قيادة السيارة، وجاء الكتاب ليقول بالحجج والبراهين العلمية والشرعية إن الذين يبررون إلغاء دور المرأة فى المجتمع ومصادرة حقوقها ليسوا إلا امتدادا للذين كانوا يبررون وأد البنات ودفنهن أحياء فى بطن الأرض.
وأهمية هذا الكتاب الذى تعرض الشيخ بسببه للتجريح والتكفير تكمن فى أنه يهدم المشروع الفكرى الكبير الذى يروج له المتخلفون المتعصبون، والذى يقوم على الاستبداد والجمود وتحقير المرأة وإلغاء دورها فى الحياة باعتبارها عورة، فقد أيد الشيخ خروجها للعمل، واشتغالها بالوظائف العامة، بما فى ذلك توليها الوزارة والحكم، فلا تكتفى بقيادة السيارة بل ترتفع لقيادة الدولة، ودعا إلى أن تزوج المرأة نفسها إذا بلغت مبلغ الرشد والعقل والعلم، مؤكدا أن المرأة لم تكن ولن تكون مشكلة فى الإسلام.
وفى كتابه “الحق المر” يقول الشيخ الغزالى: “رأيت ناسا يفسرون “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” بأن من شاء صلى ومن شاء ترك، من شاء سكر ومن شاء صحا، من شاء عف ومن شاء فسق، أى يريدون مجتمعا فوضويا خاليا من الحقوق والالتزامات، وقد نبتت جرثومة هذا الفهم فى الأوساط المرتدة التى رباها الاستعمار فى كنفه، وغذاها الغزو الثقافى بتعاليمه، إن هذا الاستعمار بعدما ألغى الحدود والقصاص، وأبعد الشريعة عن عالم القانون، اتجه إلى ضرب العقائد والعبادات وأخلاق الإسلام وقيمه، وبث دسائسه فى ميادين التعليم والإعلام لإنشاء أجيال خاوية لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، وقد سمعنا صيحة غريبة تقول: (نريد الإسلام الروحى وحسب)، والحقيقة أنهم يرفضون الإسلام كله، بدءا من كلمة التوحيد وحتى إماطة الأذى عن الطريق، يريدون إسلاما يبيح الزنا والسكر، ولا يعرف لله حقا فى شيء، إن هناك عقدا بين الله وعباده، يقول الله: (شرعت)، ويقول المؤمنون: (سمعنا وأطعنا )، فمن رفض السمع والطاعة لله لايسمى مسلما، ولا نقبله فى صفوف المؤمنين.
وهكذا كان الشيخ الغزالى واضحا قويا فى الحق، وفى مواجهته للتيارات الهدامة، من خلال كتبه ومحاضراته وخطبه، حارب على كل الجبهات، وحاول علاج أمراض الأمة بهمة عالية وعقل ذكى ولسان مبين .
وكثيرا ماتصدى لدعوات الجمود الفكرى وتعطيل العقول قائلا: ” لا أخشى على الإنسان الذى يفكر وإن ضل، لأنه سيعود حتما إلى الحق، ولكنى أخشى على الإنسان الذى لايفكر وإن اهتدى، لأنه سيكون كالقشة فى مهب الريح “.
كما واجه التدين المغشوش بقوله : ” إن وجهى ليسود حينما أرى العمل يخرج من يد الكافر متقنا مجودا، ويخرج من يد المسلم هزيلا مشوها “، وكان ـ رحمه الله ـ يفرق بين التدين الحقيقى والشكلى بقسوة القلب ورقته فيقول : “وقد رأيت فى تجاربى أن الفرق بين تدين الشكل وتدين الموضوع هو قسوة القلب أو رقته “، وكان يعرف التدين الصحيح بقوله : ” إن كل تدبن يجافى العلم ويخاصم الفكر ويرفض عقد صلح شريف مع الحياة هو تدين فقد كل صلاحيته للبقاء “.
ومن أهم سمات المنهج الغزالى الدعوة إلى التسامح وسعة الصدر حيث يقول: ” ابتسم فنحن بفضل الله نعيش، وليس بفضل الآخرين، لا تجعل هموم الماضى تغطى شمس الحاضر، يعجبنى أن يواجه الإنسان هذه الحياة وعلى شفتيه بسمة تنم عن رحابة الصدر وسماحة الخلق وسعة الاحتمال، بسمة ترى فى الله عوضا عن كل فائت، وفى لقائه المرتقب سلوى عن كل مفقود”.
وكان حريصا على دعوة الناس إلى السير إلى الله بالرجاء والرغبة أكثر من الرهبة:” لا أدرى لماذا لايطير العباد إلى ربهم على أجنحة من الشوق، بدل أن يساقوا إليه بسياط من الرهبة ؟ الجهل بالله وبدينه هو علة هذا الشعور البارد، أو هذا الشعور النافر، فالبشر لن يجدووا أبر بهم ولا أحنى عليهم من الله عز وجل، إن الناس تسير إلى الله بقلوبها، وطالما أن الله يعلم نيتك فلا تهتم لسوء نية الآخرين، لاتعش بعيدا عن الله وتطلب السعادة، وثق تماما أن اليد الممتدة إلى الله لاتعود فارغة أبدا “.