شاهدت بالأمس فيلم «الوصايا العشر» الذى تم إنتاجه عام ١٩٥٦. الفيلم مُسلٍّ ولكنه ناضب من الناحية الروحية. ما أبعد الشقة بين موسى النبى كما صوّره لنا القرآن الكريم وبين شخصيته فى الفيلم. فى كل لحظة يزداد يقينى أن هذا القرآن كتاب فوق طاقة كل البشر، مُنزل من رب العالمين.
الفيلم يحدثنا عن زعيم قومى مُتخشب فى أدائه. أما القرآن – وآهٍ من القرآن. آهٍ من جماله وعذوبته ورقته وروحانيته! آهٍ من حسن نظمه وبديع عباراته. آهٍ من المعانى المُكدّسة داخل ألفاظ قليلة، كالكون قبل الانفجار الكبير حينما كان محبوساً فى ذرة واحدة.
من منا لم يلاحظ احتفاء القرآن بسيدنا موسى؟ من منا لم يغبطه على محبة خالقه؟ قرآننا البديع يفعل بالقلوب ما لا تفعله القنابل النووية. انظر إليه وهو يقول لأمه: «فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ». توقف عن القراءة قليلاً وتمعن فى هذه الكلمات! موت محتمل ينجيه منه الموت المؤكد! ثم تأمل الحنان الإلهى بالأم الملتاعة: «وَلا تَخَافِى وَلا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».
فياله من إله رحيم، رغم أنه الرب العظيم المتعالى، فإنه يُطمئن الأم الملتاعة بأنه ليس فقط سيعود إلى أحضانها، بل سيمنحه أيضاً شرف النبوة والرسالة.
ذبْ معى وأنت تسمع رب العزة يمتن على موسى، وهو يحوطه برعايته فى دار فرعون نفسه: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي». كل من شاهد موسى يحبه. إذا كنت أنا مُتيماً بحبه، لحب رب العالمين له، فكيف بمن رآه؟ وانظر إلى التدبير الإلهى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا). فرعون الذى يحذر أن يُولد الرسول المخلص، فيصدر مرسوماً بقتل كل مولود عبرانى، هو الذى يربى موسى بنفسه! فيا له من إله لا يُؤمن مكره! ولا نملك منه إلا حسن الظن به والتوسل إليه والتذلل بين يديه، وإظهار ضعف المخلوق للخالق، عسى أن يرأف بنا ويرحمنا.
أحب هاتين الآيتين حباً شديداً، وتغرق عينىَّ الدموع كلما تذكرتها. أعنى هاتين الآيتين (كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا. وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا). رب العزة يأمر عبده المحبوب بالذهاب إلى فرعون، بكل جبروته. يستعيد موسى ذكريات قسوته، فيطلب من الله مطالب كثيرة تعينه على التكليف الثقيل (رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى) ولكن لماذا؟ كل ذلك من أجل (كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا. وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا).
أن تذكر الله فى قلبك وترطب به لسانك! أن تسبح بحمده وأنت واقع فى حبه! هذا هو الهدف النهائى لتلك الدراما التى تُدعى (الحياة).
هذا هو الإسلام كما أفهمه. أن تحب الله. أن تذكره ببساطة فى كل لحظة، لا لشىء سوى أنك تحبه. وأنك عبده وأنه خالقك. وأنه سبحانه مستحق للعبادة والحب والتمجيد.
القرآن جميل جداً. القرآن حدث عظيم نزل بالأرض. لا يمكن تفسير الحياة بدونه. تأمل معى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). ليس الكلام المقتضب! ولا صرامة البلاغات العسكرية. احتضنه احتضاناً غير احتضنه فقط. كلمه تكليماً غير كلمه فقط. ألم تر أنه سأله عن عصاه وماذا يفعل بها وبادله الحديث.
بخٍ بخٍ يا موسى. لك الحق أن تتدلل. لك الحق أن تذوب. لك الحق فى جرأة المحبين حين طلبت أن تراه: «رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ». وكأنك تريد أن تجمع مع النظر التكليم.
سلام على موسى فى العالمين.