أما بعد..
أتعرف يا صديقي؟!..
أنا لم أمت مرة واحدة كما يفعل الجميع..
أنا يا صديقي مت مرات كثيرة..
أتعرف؟!..
كأن يعلمك أحدهم مثلا..
كيف تموت على قيد الحياة..
حين تفرغ عالمك لأجله..
ثم يهجرك لأجل غيرك..
لأجل ذاته..
لأجل نزواته التي لم تكن خلالها إلا عددا أحمق..
مجرد رقم يضاف إلى سلسلة انتصاراته..
وخانة في سجل أهوائه..
متناسيا كمَّ من أخرجتهم لتستقبل قلبه الدنيء..
عابرا على قلبك المذبوح..
متعمدا بدمك النازف جدا..
ضاحكا..
مستبشرا..
لتكون أنت ابن الأرض الملوثة..
وجلالته من نسل أبناء السماء..
كأن تحمل أثقالك على ظهرك وأنت تلج عالمه..
فتنكفئ..
لا لكثرة العثرات..
وإنما تلك الحفرة التي جهزها لاستقبالك على قيد الوداع..
فهل رأيت يا صديقي..
كيف يستقبلنا هؤلاء؟!..
كيف يشيدون بنا؟!..
وكيف يمزقون أقدامنا ونحن نغادر؟!..
نلملم جراحتنا من أرضهم..
ونمضي بوزر..
أشد قبحا من وزر أتينا به..
أرأيت يا صديقي..
كيف يحمل المرء على عاتقه..
ذنب السجين..
ووظيفة الجلاد؟!..
أرأيت يا صديقي..
صحائفنا الحافلة بالهزائم..
بالموت المهذب..
ذلك الذي لا يأخذك إليه..
إنما..
فقط، يصحبك أينما حللت..
أرأيت يا صديقي ذلك الموت..
الذي لا يغريك لتذهب..
إنما يجعلك ببساطة..
تقول له..
أيها العزيز..
أنا..
ألف هيت لك..
ألا تأتي..
أنا يا صديقي..
ذلك الفار من غربة في قفص الصدر..
إلى غربة في ذلك الفضاء الممتد بلا نهايات..
لعلني أعثر على ذات تلائم ذلك الجثمان الذي يتقمصني منذ أربعين احتلالا..
لعلني أرانى لمرة أخيرة في وجوه مرايا..
غير تلك التي تشظت من كثرة الدموع..
ترى..
هل كنت أبكي؟!..
أم كنت أقذفها حين أعمد إلى البكاء بالحجارة؟!..
أنا يا صديقي لم أمت مرة واحدة كما يفعلون..
ولكنني أحمل الموت في تابوت ضلوعي..
وأمضي..
فقل لهم..
أي بؤس غير هذا تطلبون؟!..
أنا يا صديقي لم أمت كما يفعلون..
أنا فقط أجرب كيف أحزن بما يليق..
لعلهم يقتنعون..
أن بعض الحزن أيضا..
موت محقق..
أنا يا صديقي لم أمت..
أنا فقط أجرب الحياة موتا..
حتى أخبرهم حين نلتقي..
كم مرة يجب عليَّ أن أقتص منهم..
وكم جرح يتوجب عليَّ أن أحفره بقلوبهم..
ليذهب كل منا في طريق الضياع الأخير..
راضٍ بقسمته..
لا له ولا عليه..
انتهى..
النص تحت مقصلة النقد..
بقلمي العابث..