لم يكن سيدنا ابراهيم عليه السلام وهو يترك زوجته وولده الصغير فى صحراء قاحلة، لا زرع فيها ولا ماء، يعرف مسبقا النتائج المترتبة على هذا التصرف، لم يعنه الأمر من قريب أو من بعيد، كل ما كان يعنيه هو الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى. حتى عندما سألته زوجته السيدة هاجر عن سبب ذلك التصرف لم يجبها، وعندما ألحت عليه فى السؤال أيضا لم يجبها، فقامت بتغيير سيرة السؤال إلى: أالله أمرك بهذا؟! فأومأ برأسه: أن نعم، فقالت قولة من أربع كلمات فقط ومع ذلك فهذه العبارة تعد هى عنوانا عمليا لعلم اليقين على الله، قالت: إذن فلن يضيعنا الله.
أيقنت السيدة العظيمة أن الله لا يضيع أهله، ضحت صاغرة لأمر الله. لم تكن تقوم بهذا انتظارا لمكافأة أو جزاء من سيدنا ابراهيم. كل ما كان يهمها هو طاعة أمر الله وليكن ما يكون. وعندما نفدت ذخيرتها من اللبن والطعام والماء لم تجلس تندب حظها الذى أوقعها فى هذا الموقف الصعب، ولم تتجه باللوم ولو حتى بينها وبين نفسها على سيدنا ابراهيم الذى تركها فى مكان ليس فيه أى مقومات للحياة. كان أمر الله بالنسبة لها غير قابل للمناقشة أو الاعتراض ولا حتى التذمر الداخلى. وعندما بدأت تجوب المكان ذهابا وايابا للبحث عن أى شيء تطعم به طفلها، إذا بالله سبحانه وتعالى يرسل لها الأضحية مكافأة لها على تضحيتها. تنفجر من تحت أقدام سيدنا اسماعيل بئر زمزم وتدب الحياة فى المكان. ليس ذلك فقط، بل يكون الشرب من تلك البئر المباركة سنة للحجيج والمعتمرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما تصبح خطواتها فى السعى بين الصفا والمروة من أركان العمرة والحج. ضحت لله عزل وجل فنالت الأضحية.
كذلك لم يكن سيدنا ابراهيم وهو يتلقى أمر السماء بذبح ابنه يعرف مسبقا أن الله سوف يعطل خاصية الذبح عن السكينة فتتحول لقطعة حديد باردة. كان كل ما يهمه تنفيذ أمر الله، وكذلك عندما قال الابن لأبيه افعل ما تؤمر، لم يكن يعرف مسبقا أن الله سبحانه وتعالى سوف يفديه بذبح عظيم. ضحى الأب بأغلى ما يمكن لإنسان أن يضحى به ألا وهو ابنه امتثالا لأمر الله، وضحى الابن صابرا محتسبا بأغلى ما يملكه انسان ألا وهى حياته أيضا صاغرا لأمر الله. ضحى الأب والابن وأظهر كل منهما طواعية كاملة لأمر الله دون سؤال أو نقاش، فجاءت الاضحية للاثنين: «وناديناه أن يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين. ان هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم». السر كله فى طاعة أمر الله يقينا وتسليما بدون نقاش. فى خواتيم سورة البقرة عندما قال الله سبحانه وتعالى وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله شعر بعض الصحابة بالقلق والرعب من تلك الآية التى يجد المرء نفسه فيها محاسبا حتى على ما يدور بينه وبين نفسه. وعندما نقلوا مشاعرهم للرسول صلى الله عليه وسلم غضب غضبا شديدا، واستنكر عليهم أن يطلبوا منه مراجعة رب العزة فى الآية قائلا ما معناه أنه يربأ بهم أن يقولوا مثلما قال بنو اسرائيل لنبيهم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون. وهنا أدرك الصحابة فداحة ما قاموا به فقالوا سمعنا وأطعنا وهنا جاء التخفيف فى الحكم: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
لا تنتظر أن تنال أى اضحية فى حياتك دون أن تقدم قبلها تضحيتك امتثالا لأوامر الله التى نظمت لنا كل نواحى الحياة. ثق أن كل تضحية يعقبها اضحية. فقط قدم تضحيتك وانتظر أضحيتك.
Hisham.moubarak.63@gmail.com