إنّ حُبّ الناس لِلنجاح الدراسى أو الوظيفى أو الإجتماعى يدفعهم لِبذل الجهد فى سبيله ، ومنها المطالَعة المستمرة والعمل الشّاقّ وقلة الراحة والتخلى عن بعض الرفاهية فى سبيل تحقيق الأمل المنشود ، فالقلب مفطور على دفع الإنسان لِتحمُّل الألم المؤقت فى سبيل اللذة النهائية ، والسير فى طريق الأشواك إذا كان فى نهايته الراحة والطمأنينة ..
فى بداية طريق المحبة لله قد يرى السالك مشقّةً فى تنفيذ الأوامر الإلهية مِن عبادات وأفكار ومعاملات أخلاقية مطلوبة تَحمل بعضَ الممنوعات وتحضّ على الواجبات وتحبِّذ العديدَ مِن المستحَبّات ممَّا قد لا تَكون موافِقةً لِهوى السالك أو مُحِبّ الكمال ، ولكنّ الدافع المبدئى الذى يَجعل السالكَ ينفِّذها ويَقوم بها هو الحبّ والعشق ..
يقول ابن عربى : المحِبّ يعانِق طاعةَ محبوبِه ويجانِب مخالفتَه .
وقال الشاعر :
تَعصِى الإلهَ وأنتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ * هذَا مُحالٌ فِى القياسِ بديعُ
لوْ كانَ حُبُّكَ صادقاً لأَطَعتَهُ * إنَّ المحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
المحِبّ عبدٌ ، والعبد مَن وقف عند أوامر سيدِه وتَجنَّبَ مخالَفةَ أمرِه ونهيِه ؛ فلا يَراه حيث نهاه ، ولا يَفقده حيث أَمَرَه ، لا يزال ماثلاً بين يديه ، فإذا أمَرَه رأى هذا المحِبُّ أنّه امتَنّ عليه وإنْ فَقَد رؤيتَه ومشاهَدتَه فيمَا شَغَلَه به ؛ فهو في نعيم ولذة لِكونِه تَصَرَّف بمراسيم سيدِه وعن إذنِه ، فإنْ كان المحِبّ لله فأمرُ المحبوب له دعاؤه ورغبتُه فيما يَعِنّ له ويُحِبُّه ، ثمّ إنّه يَكره أشياء فيدعوه بصفة النهى ؛ مِثل قوله { لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا ا} { وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرً ا} { وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِه } ؛ فهذا سؤال بصفة نهى ؛ إذ وقع منه الأمر والنهى لِسيدِه ، وإجابة الحقّ لِعبدِه كالطاعة مِن العبد لأوامر سيدِه ومجانَبة مخالَفتِه .
وباستمرار الخوض في طريق النسك والطاعة مِن المحِبّ لِمحبوبه يشعر السالك بحلاوة العبادة ؛ لأنّ فيها لقاءً حقيقيّاً بينه وبين محبوبه ، ففى الصلاة مناجاة لله مِن العبد ، وفى قراءة القرآن استماع العبد لِحلاوة الخطاب الإلهى الموجَّه له ، وفى الدعاء استشعار مِن المحِبّ بفقرِه واحتياجِه المستمِرّ لِلإله وعدم استغنائه عنه سواء فى وجوده وحياته أو فى سائر تصرفاتِه وأفعالِه وحولِه وقوّتِه ، فيصل المحِبّ مِن مرحلة استثقال العبادة مع إتمامها مِن أجل المحبوب إلى مرحلة أعلى وهى الرضا والارتياح لِلطقوس التعبدية .
ثمّ مع الاستمرارية فى المناجاة والذكر وتهيئة القلب لاستحضار المعشوق يحطّ رحال السالك نحو مقام أعلى ممَّا سبق ؛ وهو مقام العشق لِلعبادة وطلبها ، وهو ما وصل إليه نبيُّنَا الكريم حين جُعِلَت قرةُ عينِه في الصلاة ، وكان ينادى بلالاً أن {أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلاَل} مِن الدنيا عند مناداة الناس إياها .
يقول الشبلى رضى الله عنه : حقيقة المحبة أنْ تَهَب كُلَّك لِمن تحبّه فلا يبقى فيك لك شيء .
ويقول الشاذلى : “مَن أَحَبّ اللَّهَ وأَحَبَّه فقد ثبتَت ولايتُه .
والمحِبّ حقيقةً لا سلطانَ له على قلبِه لِغيرِ محبوبِه ، ولا مشيئةَ له غير مشيئته” .
إنّ المحِبّ يصل لِتوحد ذوبان إرادته فى إرادة الله أنْ لا يَكون له رغبة تخصّه ولا أمل يسعى إليه سوى أنْ يَكون أملُه تحقيقَ آمال سيدِه فيه .
فى هذا العشق يُسَلِّم المحِبّ لِمحبوبِه مفاتيحَ فؤادِه لِيَملك المولى تدبيرَ حالِه وأمرِه بالكلِّيَّة ..
يقول ابن عربى : اعلم أنّ نفس الشخص الذى يتميز عن كثير مِن المخلوقات إنما هو إرداتُه ، فإذا تَرَك إرادتَه لِمَا يريده محبوبُه فقد خرج عن نفسِه بالكلِّيّة ؛ فلا تَصَرُّفَ له ، فإذا أراد به محبوبُه أمراً ما وعَلِم هذا المحِبّ ما يريده محبوبُه منه أو به سارَع أو تهيأ لِقبول ذلك ، ورأى أنّ ذلك التهيؤ والمسارَعة مِن سلطنة الحبّ الذى تَحَكَّمَ فيه ، فلم يَرَ المحبوبُ فى محِبِّه مَن ينازعه فيما يريده به أو منه ؛ لأنّه خرج عن نفسِه بالكلِّيَّة ؛ فلا إرادةَ له معه ، ولكنْ مع وجودِ نفسِه وطلبِه الاتصالَ به ، وإنْ لم يَكن كذلك فهو فى مرتبة الجماد الذى لا إرادةَ له ، فما له لذة إلاَّ اللذة التى متعلّقها التذاذ محبوبِه بما يراه منه فى قبوله .
الملاحَظ مِن سلوك أهل المحبة أنّ دافعهم لِلسلوك وتأدية الطاعات ليس هو الخوف مِن عذاب الله فى الدار الآخرة ولا الرغبة فى التجارة معه ؛ فهُمْ يرون هذه الدوافع تخصّ الإنسان العادىّ الذى قد يَعبد اللَّهَ خوفاً مِن عذاب أبدىّ فيَتحمل مشقةَ الطاعات اتقاءَ النار ، والذى قد يَعقد صفقةَ متاجَرة رابحة مع الإله بأنْ يَتنازل عن المتاع الدّنيوىّ المؤقت مِن أجل الفوز بالجنة والمتاع الأخروىّ المستمِرّ ..
أحد شيوخنا قال :
أُحِبُّكَ لاَ أرجُو بذلكَ جَنَّةً * ولاَ أَتَّقِى ناراً وأنتَ مرادُ
إذَا كنتَ لِى مولىً فأيّةُ جَنُّةٍ * وأيّةُ نارٍ تُتَّقَى وترادُ ؟!
بل إنّ قِبلَتَهم المحبوب ذاته ..
سُئِل مولانا زين العابدين عمّن يَعبد ربَّه خوفاً مِن ناره فقال :” تلك عبادة العبيد ” ، وعمَّن يَعبده طمعاً في جَنّتِه فقال :” تلك عبادة التجار ” ، وعمَّن يَعبده حُبّاً فى ذاتِه فقال : تلك عبادة الأحرار .
أمَّا باقى الأنماط مِن العبادة فيَعتبرها المتصوف مراحلَ قد يخوضها الإنسان العادىّ كى يَنخرط فى عبادة المولى ، ومِن ثَمّ يبدأ شيئاً فشيئاً فى تذوُّق حلاوة الطاعة وجَمال القُرب فيَتنور قلبُه ويتلذذ بمعية الله إياه ؛ فتتبدل دوافعه لِلطاعة مِن الخوف مِن نارِه أو المتاجَرة معه إلى الحُبّ له والفَناء فى ذاتِه المقدَّسة ..
فليست كُلّ أوعية البشر تَتحمل الحديثَ عن السعادة المعنوية بهذا الشكل المباشر ، بل إنّ غالبيتهم – بسبب انغماسِهم في الدنيا وغفلتِهم عمَّا فى عقولهم وقلوبهم مِن أنوار فطرية تَقود إلى الحقيقة وتَستشعرها – قد يَحتاجون إلى خطابات تدريجية تَبُثّ فيهم دوافعَ مؤقتةً لِلإقبال على الله والفرار إليه ، فيأتى الخطاب الإلهى لهم تارةً بقصص مِن سِيَر الأولين فيها الموعظة والدعوة إلى محبة المولى وطاعته أو التحذير مِن مخالَفته لِتقوية همّتِهم ، وتارةً بالترغيب في الجنة عَبْر وصفِ ما فيها مِن متاع ومفاتن تفوق متاعَ الدنيا الزائل الفانى ، وتارةً بالترهيب مِن النار عَبْر وصفِ ما فيها مِن شدة وعذاب يتجاوز العذابَ المادّىَّ والدّنيوىّ أضعافاً مضاعَفةً ؛ كُلّ ذلك لِحَمْل الناس على الهداية والدخول فى طاعة الله ورحمتِه ، وبعد خوضِك مرحلة الطائع الخائف والطائع المتاجر تبدأ مرحلة العبد الحرّ ، وفيها تَستشعر أنّ تمام الحرية هى أنْ يكون حبُّك وطاعتُك لله لأنّه مستحِقّ لِذلك .
فى القصيدة الشهيرة :
أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ حُبَّ الهوَى * وحُبّاً لأنَّكَ أهلٌ لِذَاكَ
فأمَّا الذى هوَ حُبُّ الهوَى * فشُغْلِى بذِكْرِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ
وأمَّا الذى أنتَ أهلٌ لهُ * فلستُ أرَى الكونَ حتَّى أَرَاكَ
فمَا الفضلُ فِى ذَا ولاَ ذاكَ لِى * ولكنْ لكَ الفضلُ فِى ذَا وذَاكَ
وهي تُنسَب لِلسيدة رابعة العدوية ، والله أعلم .
ومنتهَى حرية العبد الحرّ أنْ يَستجيب لِلحقّ والعدل ، فإنْ لم تجرّك حريتُك لِموازين الحقّ وسبل العدل فقد وقعتَ فى أَسْرِ الضلال وأغلال الوهم ؛ فماذا بعد الحقّ إلاَّ الضلال ؟! وماذا غيرُ شمس الحقيقة سِوَى ظلام البهتان ؟!
الحرية – كما يراها الحكماء – هى وسيلة راقية ومُثْلَى كى يَصِل الإنسان عَبْرَهَا لِلحقائق ، وبعد الوصول لِلحقّ تبدأ المسئولية لِتأخذ مجراها .
أمَّا مَن يَعتبرون الحريةَ غايةً فى ذاتها فهُمْ يعيشون الوهمَ بعينِه ؛ إذا ظَنّ هؤلاء أنّهم تَحرَّروا مِن قيد طاعة الإله فإنّهم يقعون أَسْرَى نزواتِهم وأهوائِهم ومطالبِهم الدنيوية ، والفيصل هنا طالما أنّك ستنقاد إمَّا لِلدنيا أو لِلآخرة أنْ تختار التسليمَ لِلحقيقة ، فتسليمك وانقيادك لِذاتِك والدنيا يعنى الهلاكَ والسقوطَ فى الأوهام ؛ لأنّك والدنيا لستما بإلهيْن واهبيْن ، أمَّا تسليمك لله فمعناه إعطاؤك الحقَّ لأهلِه وتسليمُك مفاتيحَ مملكتِك لِمالكِها الحقيقىّ ومؤسِّسِها الوحيد ، وحرية التصرف هنا لِلمالك وليست لِلمملوك ، ولا يَتنافى هذا مع حرية إرادة الإنسان ؛ فإنْ شئتَ آمنتَ ، وإنْ شئتَ سلكتَ طريقاً آخَرَ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} ، لكنّ الفارق هنا أنّ حريتَك مقيَّدة وليست مطلَقةً ؛ لأنّ الإطلاق وبسط اليد مِن صفات المطلق واللا محدود ؛ وهى ما تَنطبق على المولى تعالت قدرتُه .
وعليه .. فالقلب الصوفىّ حرّ فى أنّه تَوَجَّه نحو شمس الحقيقة ، وعَلِم أنّ العبودية الحقيقية هى فى لذة المعرفة والقُرب ، فكانت عبوديته لِمولاه سبباً فى تَحَرُّرِه مِن شهواتِه وأَسْرِه فى الدنيا ، ووصل تمام عبوديتِه لِمولاه إلى منتهَى لَذّاتِه وذوبانِه فى محبوبه ومعشوقِه ، وهى المحبة التى وُصِفَت بأنّها تُعمِى وتصّم ؛ تُعمِى عن سِوَى المحبوب فلا يَشهَد سِوَاه مطلوبَه ، وكيف يسأم وهو مستقِلّ لِعملِه مقصِّر عند نفسِه فى حزنه وفى حرق فؤادِه لِعظيم ما أَلزَمَ قلبَه مِن تعظيم الله وخشيتِه والتشوق منه والحنين إليه ، وهو مجتهِد مذعور مع ذعرِه وفَرْقِه مشتاق ذو حنين واله معلَّق قلبُه بمولاه ، لا يَنفد مِن قلبِه ذِكْرُه وشدّةُ هيبتِه ؛ وكيف تَنفد هيبةُ مَن قد أَقبَلَ عليه بالتوفيق وعَطَف عليه بالرحمة والتنبيه ؟!
جعلنا الله وإياكم مِن المحبين الصادقين فى توجُّهِهم إلى ربهم وتعلُّقِهم به وفَنائِهم فيه .
والله يقول الحقَّ ، وهو يَهدى السبيل .