أيها اللاشيء الثقيل
من أخبرك أن صدري متين
وأن ظهري جدار لا يُهد
من أخبرك أن روحي لا يتعكر لونها
وأن قلبي لا يُكسر كجرةِ طين.
(جلال الدين الرومي)
من ميكانيزمات الدفاع النفسي التي تحدثَ عنها سيجموند فيرويد مؤسس مدرسة التحليل النفسي ،وهي كثيرة ،ميكانيزمة ال(الجسدنة) أو بمعنى آخر psychosomatic disease وهو الألم النفسي الذي تم اخفاؤه فيعبر عن نفسه بالظهور كمرض عضوي .
فالمشاعر لاتفنى بل تتحول من صيغة إلى أخرى ، وميكانيزمات الدفاع النفسي هي حالة (لاواعية) يستخدمها العقل حين نكون في حالة من الألم والصراع النفسي والتوتر ليحمي الإنسان من الإنهيار النفسي أو الجنون .
ومنها ميكانيزمات ايجابية كالتعويض والتسامي ومنها ماهو سلبي.
وحديثنا اليوم هو عن (الجسدنة).
شاب مطرب معروف لمع نجمه مؤخرا بشكل لايوصف ،لمايمتلكه من صوت متفرد واختياره لأغنياته يقع على الجرح كما يقولون .
وبشكل مفاجئ بدأ يعاني من ألم حاد في منطقة الفك العلوي وصعوبة في فتح فمه ليتحدث أو يأكل ،بعد عدة زيارات للأطباء وفحوصات تبين أنه قد أصيب بمرض يعتبر نادر الحدوث وخطير وهو (تآكل عظام الفك osteonecrosis of the jaw) ، حالة تحدث حين تبدأ خلايا عظام الفك السفلي أو العلوي بالموت ،قد تحث تلقائيا أو بعد قلع الأسنان أو بعد التعرض لصدمة أو تناول بعض الأدوية ،ولن أدخل في شرح مفصل لأسباب حدوث هذا المرض وأعراضه هنا .
دخل في سلسلة علاجية ومازال حتى الآن تحت العلاج.
لكن ماالذي حدث لهذا الفنان الشاب؟
بعض من عشاق الثرثرة عزوه لعمليات التجميل التي اجراها وفي الحقيقة هي ليست عمليات بمعناها الحقيقي بل مجرد تعديل لشكل الوجه بحقن مادة الفيللر.
لكن لو نظرنا مليا لحياته وحديثه في اللقاءات لأقتنصنا منهما تحليلا منطقيا لألم نفسي تحول بالجسدنة إلى مرض عضوي،فتآكلت عظام فكه بدل أن يتآكل عقله فيجن من فرط الصراع النفسي بداخله.
قال يوما في لقاء له :
الأطباء النفسيون أجمل شيء في العالم،أنا زبون دائم لديهم ،مع الطبيب النفسي يمكنك التحدث عن أي شيء بلا أدنى حرج فهو لايعرف عائلتك واقاربك ولن يخبر أسرارك لأحد .
في لقاء آخر جمعه مع أمه وأخوته وهو الأوسط بين أخوين لهما أيضا وزنهما وشهرتهما
قال،أمي تحب أخي الأكبر جدا،هو المفضل عندها، حتى أنني كنت دوما الوحيد الذي يجب أن يذهب لإبتياع الحاجيات من السوق بدلا عنهما ،وحين أعترض وأسأل أمي لمَ لايذهب فلان فتقول ،لا هذا أخوك الكبير أنت اصغر منه ولابد من أن تذهب أنت
فأقول لها،ولم لايذهب فلان؟ ،لمَ دوما أنا؟ ،تقول ،لا هذا أخيك الصغير ،يجب أن تخدمه أنت.
قالها وهو يضحك أمام الجميع ،كانت الأم تسمع،وضحكت معهم أمام الكاميرا ثم قالت:
نعم بالفعل أبني الكبير هو أحب اولادي لقلبي
في حديث آخر له قال:
أخذتٌ أمي يوما لتعتمر وتطوف حول الكعبة وقد ابتعت لها هدايا كثيرة، كنت إلى جانبها وهي تدعو الله قرب بيته ،كنت أظن أنها ستدعو لي ،لكني سمعتها تدعو لأخي الأكبر، لم تذكرني بدعوة حتى.!!
طيب لنرى الآن ماذا هناك.
وماسأقوله هو وجهة نظري الشخصية وتحليلي لحالته والله أعلم.
الأم الطبيعية لاتفرق بين أبنائها،بل توزع الحب على الجميع،لكن الأم النرجسية فهذه خصلة معروفة من خصالها.
دوما تتخذ طفل أو طفلين من أطفالها ليكون (الطفل الذهبي Golden child) ، وتبقي الطفل الآخر كبش فداء .
سيكبر الطفل الذهبي وقد يخرج إنسانا سويا لكن غالبا سيخرج نرجسيا مثلها من شدة الدلال المفرط ،أما الطفل كبش الفداء سيظل يصارع ألم التفرقة والإهمال والتهميش العاطفي ،سيبقى يحاول التودد لها ليحصل على الحب الذي لن يحصل عليه أبدا ،سيحاول لفت انتباهها بكل الطرق كوسيلة منه للحصول على بعض الإهتمام والمشاعر .
سيكبر ويبقى يبحث عن الإهتمام بتركيزه على أي طريقة تلفت نظر الناس إليه .
سيكبر وهو يبحث عن (صورة) الأم المحبة التي لم يحصل على حبها واهتمامها أبدا ،سيبحث عنها في كل امرأة يصادفها،لذا سيدخل في علاقات عاطفية عديدة ثم يفشل فيها لأنه دوما سيشعر بالتهميش العاطفي والإهمال من قبل الطرف الآخر.
وهذا ماحدث بالفعل لهذا الفنان، دخل في زيجات عديدة وخرج منها ،عانى الألم النفسي وهو يبتسم ويتظاهر بالمرح واللا مبالاة فكانت أغنيته التي طربنا كلنا على موسيقاها وضحكنا بملئ فمنا على كلماتها
(اختياراتي مدمرة حياتي اختياراتي مدمرة حياتي كده ليه)
لم يحتمل الصراع النفسي والألم الممزق لجرح الطفولة بداخله ،الطفل المتألم الذي حمله بداخله طيلة الوقت ،فاشتغلت ميكانيزما الدفاع النفسي الأخيرة والتعيسة وهي(الجسدنة) فظهر ألمه النفسي على شكل مرض تآكل عظام الفك ،وبالتأكيد كانت قبل هذه الميكانيزما الكثير من الميكانيزمات الدفاعية غيرها لكن مادام الألم موجودا فسيظهر بأتعس صوره الجسدية إن لم نسمح له بالرحيل.
صوته كان يبوح بصراعه النفسي وهو يقول في أجمل أغنياته:
خايف لمن كتر الهموم
أنام في يوم معرفش اقوم
صعب حال على طول يدوم
ياهم دايم جوايا ليه
كنت ماشي زمان في حالي
بس ماعجبش الليالي
يازمن مالك ومالي
شوف بقى غيري ترازيه
د. تهانى محمد
اختصاصي نفسي psychologist
مستشار علاقات أسرية وتربوية