مصر على موعد مع واحد من المؤتمرات بالغة الأهمية سواء في موضوعها أو توقيتها..عنوانه الاجتهاد ضرورة العصر.المؤتمر يعقده المجلس الأعلى للشئون الإسلامية(24و25سبتمبر الجاري) تحت رعاية الرئيس السيسي.يشارك فيه صفوة من كبار علماء مصر والعالم الإسلامي(أكثر من خمسين دولة) لمناقشة العديد من القضايا كما قال فضيلة د.محمد مختار جمعة وزير الأوقاف ورئيس المؤتمر في بيانه لمحاور المؤتمر الأربعة عن الاجتهاد صوره وضوابطه والمجتهدين والنماذج العصرية الملحة في مجالات الاقتصاد والطب والبيئة وغيرها.
الحقيقة أن الاجتهاد ليس ضرورة العصر فقط ولكن ضرورة كل العصور..الاجتهاد دليل حيوية الأمة وقدرتها على الارتقاء والرقي والصعود عاليا في السلم الحضاري والصمود في مواجهة أي عواصف واعاصير فكرية أو حملات للغزو الفكري أو الاستعمار الثقافي أو أي من المسميات التي تدمن العبث بالعقول واللعب في الأسس والثوابت ايا كانت طبيعتها ودرجة قدسيتها.
علو الهمة في الاجتهاد وكثرة المجتهدين في فروع العلم ومناحي الحياة الإنسانية لضبط ايقاعاتها والدفع بها إلى الأمام من أكبر حوائط الصد ضد غائلة الانحراف -أي انحراف- ويضمن اعتدال دفة التوجيه ودقة بوصلة التصويب وتحديد الاتجاهات.
لذلك فإذا ماتوقفت عجلة الاجتهاد اوندر او انزوى المجتهدون فهذا كفيل بدق كل اجراس الخطر وصافرات الانذار لأن عجلة التقدم اصيبت بالعطب والكارثة مقبلة لامحالة.وكم من الجنايات والحماقات التى ارتكبت في حق أمة الإسلام والإسلام نفسه حين توقف الاجتهاد أو تم التلاعب به من قبل الأفراد -مشايخ أوعلماء سوء- أو تم تسخيره لصالح قضايا وتوجهات مذهبية وسياسية.أفادت أعداء الأمة وكانت نكبة على الاسلام والمسلمين.
أعداء الإسلام تنبهوا مبكرا لعبقرية الفكرة الإسلامية في استمرار تدفق نهر الاجتهاد وتعدد روافد ينابيعه لادراكهم انها من بين الضمانات الأكيدة على حيوية الامة المستمرة والتى تؤكد حقيقة قدرة الاسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان وذلك بتفاعله وانسجامه مع متغيرات الحياة وشموليتها لما للاجتهاد من قدرة فائقة على تنظيم ڜئون الحياة وفق القواعد الشرعية وتحقيق المصالح المرسلة للبلاد والعباد.
لذلك كان همهم الأكبر تعطيل مسيرة الاجتهاد إثارة الفتن الكلامية وإشعال الغيرة بين العلماء أو تأليبهم على بعضهم البعض أوعلى السلطان أو الوشاية بالعلماء الافذاذ وأصحاب القدرة على الاجتهاد ووضعهم في مواجهات ومصادمات مع السلطة ايا كانت واستعدائها عليهم بكل الطرق..فتتوقف الحركة العلمية ويتصدر الصفوف رؤوسا جهالا تمرسوا في فنون الغواية والضلال..
نظرة سريعة على مجريات الأحداث في التاريخ الاسلامي القريب والبعيد تؤكد أن فترات الازدهار والرقي والمد الحضاري كانت مقرونة بحركة علمية نشطة وانفتاح على الدنيا وتأصيل علمي شامل ورؤية فقهية مستنيرة تضيء جوانب الحياة دون إفراط وبلا تفريط أو استهانة بالابعاد الدينية والروحية في تنظيم شؤون الحياة والسياسة العامة للمجتمعات.
في الإطار لابد أن نتوقف أمام محنتين تعرض الاجتهاد لهما وعصفتا بالكثير من الأمور وتسببتا في حالات ارتباك وفوضى شبه عارمة حين اختلط الحابل بالنابل وحين تصدر الرويبضات في كل مناحي الحياة وليس الفقهية فقط. وحين تعلو الاصوات بلا خجل تنال من دين الله وشرعه بل وتنكره حينا وأخرى تريد منه خلاصا وتريد الخضوع فقط لسلطان العقل والهوى.. ويرفعون في ذلك رايات سوداء حينا أو خضراء حتى وصلنا الى رايات بألوان الطيف يريدون لها الغلبة والهيمنة دون خوف او اكتراث من مصير قوم لوط..رغم مخالفاتها لأبسط قواعد النفس الإنسانية والأخلاقية والأعراف الاجتماعية والفطرة السليمة.
المحنة الاولى تجلت مع انسداد أفق الاجتهاد حتى قيل إن باب الاجتهاد قد أغلق وصدق البعض ذلك وروجوا له زورا وبهتانا لأغراض في نفس اليعاقيب.وحدثت حالة من الاستغراق في التبعية المذهبية والتقيد برأي وفكر أصحاب المذهب من المؤسس أو تلاميذه وحدث شلل شبه تام لكثير من الأمور وتوقف البحث عن حلول خارج إطار المذهب وبالغ البعض في الانغلاق والتعصب والتشدد حتى توهم البعض أن لقواعد ونصوص ومتون المذهب قدسية من نوع ما وهوما نال حقيقة من سلطان الاجتهاد!
النكبة الثانية..هي ما يمكن أن نسميه الاجتهاد السداح مداح!. الأبواب مفتوحة على مصاريعها وبات يفتي في أمور الدين الدنيا كل من هب ودب بلا رادع حقيقي.وأصبح الدين كلأ مباحا لكل زاعق وناعق حتى بات الناس في حيرة عمن يأخذون دينهم الصحيح!
واحدثت التيارات الاسلاموية نوعا من السيولة وكثر مناوؤها ومساندوها بالحق والباطل مما تسبب في فوضى مريبة يدفع ثمنها الاسلام كدين وعقيدة والمسلمون كاتباع.
النكبة الأخيرة رافقها أمورة بالغة الخطر القت باثقال ثقال على عملية الاجتهاد نفسها والقائمين بالاجتهاد أفرادا أو مجامع علمية من تلك الامور:
* الجرأة على الدين والتجرؤ على الخالق سبحانه وهو ما بدا في الاصوات الالحادية والنظريات البوهيمية والفلسفات المادية البحتة التى لا تعرف روحا ولا دينا ولا آخرة..
المشكلة ليست في الأصوات ولكن في من يقف وراءها داعما ومساندا سرا وعلانية ماديا ومعنويا ومحرضا على هدم كل ما له علاقة بالدين من قريب أو بعيد.
*غير خاف أن الحالة الإسلامية تدفع ثمن توجهات اندفعت بغير وعي لشيطنة كل ما هو اسلامي..خاصة بعد أن أصيبت امريكا ومعها الدول الغربية بهوس الإرهاب وتحت غطاء محاربة الإرهاب والتطرف صوغت لنفسها أن تفعل الافاعيل تعربد وتشيطن وتقتل وتدمر من تشاء غير عابئة بحرمة شيء ديني أو مقدس.ليس هذا فحسب فالأمر لم يتوقف على حملات الهجوم والرغبات المسعورة والمحمومة في التشويه والتشويش وحدثت قفزات نحو تحقيق الامل في صناعة اسلام جديد على مقاس دول بعينها اسلام مسخ بنكهة فرنسية أو أمريكية أو ألمانية هكذا وتم تجنيد القنوات الفضائية وشركات التواصل الاجتماعي وتوظيفها في اللعبة وإثارة الفتن.فضلاً عن التشكيك في الثوابت والأصول وترويج الادعاءات الباطلة والمقولات والمناهج والمدارس التى فشل فيها المستشرقون على مدى قرون عديدة سواء تحت سلطة الاستعمار المباشر وغير المباشر بعد انسحاب القوات العسكرية..
*الأزمات السياسية المعاصرة تركت بصمات واضحة على كثير من المؤسسات المنوط بها فريضة الاجتهاد الجماعي المؤسسي وتركت ظلالا موحشة ساهمت في تعميق الصورة السلبية عنها ودورها في القضايا المصيرية للأمة ومستقبلها وعلاقاتها مع الأعداء قبل الحلفاء.
ولا يخفى على احد ان هيبة كثير من المؤسسات الدينية أصبحت على المحك بصورة مقلقة مما يؤثر مباشرة على سلطان الاجتهاد خصوصا وان ضغوضا تنشط لتقليص نفوذها وعدم السماح بتمددها خارج الاسوار.وغير خاف أيضا شراسة المواجهات مع قوى الشر وأن عملية التصحيح صعبة واستعادة المكانة المفقود تحتاج إلى جهود جبارة.
* فوضى الحديث عن التجديد ومحاولات ركوب موجة التجديد واقتحام حصون الدين المنيعة باي وسيلة من قوى وجماعات ليست اهلا للفتيا أصلا فما بالك بالاجتهاد وشروطه وقواعده الصارمة التي لا تكاد تنطبق على احاد العصر من العلماء.
الجميع وجدوا أنفسهم امام حالة غير مسبوقة من التلفيق والتدليس والتشويه والتشويش لا يمكن انكار تأثيرها داخليا وخارجيا على صورة الإسلام والمسلمين وسلطان الاجتهاد الحائر..
والله المستعان.
Megahedkh@hotmail.com