كان يجب أن ينشط العقل الدولى بسرعة، لو كان فى هذا العالم بقية من عقل، لإيقاف الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا منذ فبراير الماضى، بعدما أصابه القحط الغذائى بسببها، واضطربت أحواله الاقتصادية، لكن الذى حدث على مدى الشهور الماضية مابين المعسكرين المتنافسين فى الشرق والغرب أطال أمد الحرب، و جعل من المستحيل السيطرة عليها أو التخفيف من آثارها المدمرة، وفى كل يوم تزداد الحرب اشتعالا، ويتسع مجالها ومداها، وتتورط فيها أطراف جديدة .
لقد كان مفهوما ـ إلى حد ما ـ أسباب اندفاع روسيا إلى هذه الحرب، كعملية تأديب من الأخ الكبير للأخ الصغير العاق، الذى أراد فى لحظة اندفاع أن يخرج من جلباب أخيه، ويشق عليه عصا الطاعة، فى وقت تشتد فيه المنافسة بين القطبين المتوحشين، لكن مع مرور الأيام وتغيرالأحوال وتقلب الموازين صارت للحرب أهداف أبعد وأخطر، وتأكد أنها لن تستمر محدودة كما بدأت، لكنها آخذة فى التتمدد لتتحول إلى حرب كونية، حقيقة لا مجازا.
لم تعد الحرب بالنسبة لروسيا مجرد نزهة، وإنما صارت ورطة كبير كما أرادها الغرب لاستنزاف قدرات المنافس الأكبر، والحد من تطلعاته، وفرض الواقع معادلة جديدة، فروسيا وسط النار لن تقبل على نفسها الهزيمة، ولن يقبل الآخرون لها أن تنتصر، ووفق محددات التاريخ والجغرافيا وحدود الاستراتيجية لن يكون الخروج من الحرب أمرا ميسورا، وهذا ما يفسر القفزة الهائلة التى قفزتها روسيا فى الهواء، بإجراء استفتاءات لضم أربعة مناطق فى الشرق والجنوب من أراضى أوكرانيا، بعد أن سيطرت عليها بالقوة العسكرية، وهذه المناطق تمثل حوالى 15 % من أراضى أوكرانيا، وجاء الرد مباشرة من أوكرانيا بطلب رسمى للآنضمام إلى حلف ” الناتو “، فلن يفل الحديد إلا الحديد، ولن يقف فى وجه روسيا إلا الناتو، عدوها اللدود .
ورغم أن ردود الفعل الأولية من الأطراف الرئيسية فى الناتو على المطلب الأوكرانى جاءت متحفظة، ومؤكدة على أن الحلف لن يتورط فى الحرب بشكل مباشر، وإنما سيستمر فى دعم أوكرانيا بالسلاح اللازم للدفاع عن نفسها، إلا أن الغرب ـ يقينا ـ لن يتسامح مع قرار الرئيس الروسى بوتين بضم الأقاليم الأربعة مثلما تسامح مع قراره بضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية فى مارس 2014، حتى لاتنفتح شهيته لضم المزيد من أراضى جيرانه، وإعادة حلم ” اتلاتحاد السوفيتى ” التوسعية .
وتجتهد الحملات الغربية فى شيطنة بوتين بشكل شخصى، والإعداد لمحاكمته تاريخيا وجنائيا وفق لائحة اتهام تشير إلى أن سياساته تسير عكس حركة التاريخ، وتمثل ردة فاضحة إلى العصر الاستعمارى، واعتداء صارخا على القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة بعدم جواز ضم الأراضى التى تم الاستيلاء عليها بالقوة .
والغرب ـ كما نعرف ـ ليس نزيها فى مواقفه وأحكامه، ومعظم دوله منقادة للموقف الأمريكى، وأمريكا ترغى وتزبد، وتحصى على بوتين أخطاءه، ولن تتركه يمر بالغنيمة مثلما تركت نتنياهو ودعمته فى ضم القدس والجولان المحتلتين، وإنما ستعامله ـ فى الغالب ـ معاملة صدام حسين حين حاول ضم الكويت فى أغسطس 1990 .
وبينما يدافع بوتين عن استفتاءات وقرارات ضم الأقاليم الأوكرانمية الأربعة، باعتبارها تهدف إلى تحرير الأوكرانيين من أصل روسى ووقف اضطهادهم، إلا أن الغرب يشن حملة تشكيك واسعة فى إجراءات الاستفتاءات ونتائجها المعروفة مسبقا، حيث وصفت بأنها مجرد ” حفلة تنكرية ” لأنصار بوتين، وفرضت بريطانيا عقوبات جديدة تستهدف كبار المسئولين الروس المشاركين فى تنظيم التصويت، وأكد وزير الخاردجية الأمريكية أنتونى بلينكين أن الغرب لن يعترف أبدا بالضم الروسى، محذرا الكرملين من ” تكاليف إضافية سريعة وشديدة “، فى حين قال المتحديث باسم الخارجية الصينية إنه ” يجب احترام سيادة وسلامة أراضى جميع البلدان”.
ويتخوف المراقبون من أن الحرب فى أوكرانيا بعد استفتاءات وقرارات الضم ستدخل مرحلة جديدة أكثر شراسة مما كانت عليه خلال الشهور السبعة الماضية، وقد هدد سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسى صراحة بأن بلاده وسعت أهداف حربها لأبعد من مناطق الشرق الأوكرانى، وفسر المراقبون ذلك بأن روسيا بعد ضم المناطق الأربعة التى أجريت فيها الاستفتاءات، والتى لا تسيطر عليها بالكامل حتى الآن، ستأخذ الحرب إلى مستوى جديد، حيث ستضع قوانين سريعة وجديدة تعتبر المناطق الأربعة التى تم ضمها أرضا روسية، يجب الدفاع عنها بأشد الأسلحة فتكا، ولو وصل الأمر إلى استخدام السلاح النووى، إذا تعرضت لأى هجوم من القوت الأوكرانية، أو قوات الناتو الداعمة، التى ستحاول استرداد هذه الأراضى بالسلاح .
وعلى هذا النحو سيكون مستقبل الحرب أسوأ من ماضيها، وسيغيب العقل الدولى أكثر وأكثر، وليس مستبعدا أبدا فى ظل هذا الجنون أن نصحو على كارثة لاتبقى ولا تذر .