كانت أغانى الطرب فى النصف الأخير من القرن الماضى قد بلغت ذروتها من النضج الفنى والذوق الرفيع، وكانت فى أغلبها تدور حول الحب والهيام والشوق بين العاشقين، وتتفنن فى الوصول إلى المعانى العميقة التى تعبر عن أحوال المحبين فى القرب والبعد، والوصل والهجر، والغضب والرضا، وما إلى ذلك، وكلها معان راقية يضعها الفن فى قوالب بديعة ومبتكرة، فيدركها الإنسان ويتفاعل معها، وإن لم يمر بها ويجربها، لأنها تنسجم مع فطرته كإنسان، يحتاج دوما إلى ما يهدهد روحه، ويخاطب قلبه وإحساسه ووجدانه .
فى هذه المرحلة الرومانسية كان النقاد يعيبون على الأغانى أنها تضع المحب فى موضع الذليل المستكين، الذى يرضى لنفسه المهانة من أجل نظرة أو ابتسامة من الحبيب، ولا يسمع نصيحة العزال وتحريضهم، أو الذى يستحى من الجهر بحبه، أو يقف ضعيفا قليل الحيلة، ينتظر من يأتى إليه بحبيببه .
ثم مرت بنا فترات تغير فيها المزاج الفنى تبعا لتغير النمط الاستهلاكى الشعبى، فتحولت الأغانى من الحديث عن الأحاسيس والمشاعر إلى الحديث عن المحسوسات، عن الجسم ومفاتنه، والقبلات والأحضان وتلامس الأيادى، وغلب نمط الغناء الشعبى على غناء الطرب، وخلت الساحة لمطربى الأفراح والصنايعية، فتحولت الأغنية على أيديهم إلى نكتة أو مظلومية شعبية وعريضة للشكوى من جور الزمن وخيانة الحبيب .
وظل التدهور يتزايد مع الزمن حتى وصلنا إلى ما يعرف اليوم بـ ” أغانى المهرجانات ” التى ليس فيها شيء من الفن والإبداع، وإنما فيها طبل وزمر، يتألف بشكل عشوائى صارخ من نغمات راقصة مزعجة، تصاحبها كلمات هابطة المعانى قبيحة الدلالات، لكنها تنتشر على كل المستويات انتشار النار فى الهشيم، فما تسمعه فى الميكروباصات هو نفسه ما تسمعه فى أفراح الفنادق والفيلات والقصور .
ومن أغانى المهرجانات هذه خرج لون جديد من الأغانى، له كل مواصفات القبح والعشوائية، ويزيد عليها أنه يتضمن شتائم للحبيب وأهله بألفاظ صريحة خادشة للحياء، ويزيد الأمر سوءا إذا كان الحبيب قد غادر حبيبته أو طلقها، فتخرج المطربة لتحكى قصتها مع الرجل الخائن الذى باعها وغدر بها، وتعلن عن شخصيتها القوية المسيطرة المتحدية، التى تناطح الرجل وتعانده، فرأسها برأسه، بل تتفوق عليه، وتفرض شروطها، وتعلن قائمة المحظورات التى يجب ألا يقترب منها .
ومنذ أن اندثر فن الغناء عندنا من أكثر من عقدين من الزمان لم أهتم بشيء من هذا الغثاء المنفر، حتى اقتحمتنى فى الفترة الأخيرة عبر اليوتيوب كلما فتحت تليفونى عدة فيديوهات لمطربات لا أعرفهن، وعندما سألت قيل لى إن هذه الفيديوهات ترويجية يدفع لها مقابل مادى على شبكة الإنترنت ومحرك ” جوجل “، ولذلك فلا تبتئس عندما تفرض نفسها عليكن ولك أن تغادرها إذا لم ترق لك .
وقد فجعنى فى بعض هذه الأغنيات ماتحمله من سخائم وشتائم سوقية للحبيب، تصل إلى لعنه، والحط من شأنه، ولعن أمه وأبيه، فيما يشبه ردح الحوارى، دون أدنى اعتبار للذوق العام والقيم والعادات والتقاليد، فيما تعلن المطربة ( الزعيمة ) أنها لا تهتم بأحد، وقلبها حديد، وأنها جاهزة للبحث عن حبيب آخر فورا، فلا مشاعر ولا ارتباط ولا إنسانية، وإنما غرام وانتقام .
لو دققت فى الأمر فستجد أن هذه الموجة من الأغانى لم تأت صدفة، وإنما تنسجم تماما مع ما تركز عليه البرامج الحوارية فى الفضائيات من أن المرأة غير ملزمة بأية واجبات تجاه البيت والأسرة والأولاد، ابتداء من الرضاعة وانتهاء بإعداد الطعام وأمورالنظافة، وأنها يجب أن تحصل على التمكين التام والمساواة الكاملة .
فى تصورى أن أغانى الشتائم والسيطرة والتحدى هى إحدى تجليات ” عصر سيداو ” الذى نعيشه اليوم، و” سيداو” كلمة إنجليزية تجمع الحروف الأولى لما يعرف بـ ” الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة “، التى اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1979، وظل غرسها ينمو ويتمدد حتى صار يحاصرنا بدعوات فجة، تستهدف هدم مؤسسة الأسرة واستقرار المجتمع .
وبمرور الزمن انتقلت ” سيداو” بملف حقوق المرأة من مرحلة المساواة مع الرجل، إلى الاستعلاء على الرجل، ثم إلى الاستغناء عنه، والتمركز الكامل حول الأنثى، باعتبارها كائنا مستقلا، وفى حالة صراع كونى وتاريخى مع الرجل، وصارت تتبنى تقديم قراءات جديدة للدين والثقافة واللغة والتاريخ تؤكد عداء الجنسين وصراعهما الأبدى .
وخلال السنوات الأخيرة انتشرت رياح ” سيداو ” المسمومة فى بلادنا انتشار النار فى الهشيم، وظهرت دعوات غريبة تدافع عن حرية المرأة فى أن تفعل ما تشاء، وتتحلل من أى التزامات اجتماعية أو دينية، وفى سبيل ذلك يتم التنكر للعادات والتقاليد، وتأويل النصوص الدينية تأويلا فاسدا، وتقديم تفسيرات ساذجة لهذه النصوص تنم عن جهل بأبسط قواعد الدين واللغة .
وبشيء يسير من البحث والتحرى نكتشف أن هذه الدعوات لا تطلق اعتباطا، ولا تظهر مصادفة، لكن وراءها ماكينة هائلة تعمل بدأب وإصرار لتحقيق أهداف محددة، تناقض ثوابت الدين والقيم المجتمعية، وتستهدف تغيير المجتمع من داخله، وفرض قيم جديدة تلغى خصوصيته، وتجعله خاضعا لقيم العولمة .