لإعلام صار محركاً لقضايا الأمن يعمل على تكثيف الحملة الإعلامية على الإجرام والمجرمين ومحاربة كل خارج عن المبادئ والقوانين والآداب، وبث روح احترام آدمية الإنسان وكرامته. كما يقوم بتوجيه رسائل إعلامية بالتعريف بالجريمة والعقوبات الواردة في قانون العقوبات وبالآليات المتبعة لمكافحة جرائم الفساد، فيؤثر في الرّأي العام من خلاله التزامه بأحكام القانون، وبالتالي المساهمة في بناء دولة القانون والحق
إن المتابع والباحث في علم الجريمة أو السياسة أو الإعلام أو الاقتصاد يجد أن الظواهر الاجتماعية تأخذ دلالاتها من المحيط البشري والمادي الذي تقع فيه وتتأثر بشكل قوي من خلال هذا المحيط، ويعتبر الإعلام أحد تلك المحيطات التي لها تأثير مباشر وغير مباشر على كثير من سلوكيات واتجاهات حياتنا اليومية، وباعتبار أن الجرائم مادة كثيرة التداول في وسائل التواصل الاجتماعي بجميع وسائلها، ومادة سريعة الانتشار كمحتوى أساسي في عالم الأخبار اليومية من صحافة وإذاعة وتلفزة وغيرها من شبكات الأخبار المتخصصة، والدوريات الإلكترونية والبحوث العلمية، كذلك فإنها مادة غزيرة تستند إليها المسلسلات البوليسية والروايات الأكثر مبيعا، كروايات اغاثا كرستي، والأفلام المرتبطة بتصورات الجريمة وضحاياها وطريقة أداء السلطات الأمنية لمواجهتها.
وبالتالي هي تشغل الرأي العام لأي مجتمع، وبما أن حديثنا عن الرأي العام والجريمة فالرأي العام لا يعتبر متفرجا على عالم الجريمة، بل يعتبر فاعلا ومؤثرا في فاعلية الإجراءات الوقائية والعلاجية للظاهرة الإجرامية، ومتأثرا بالجوانب الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية منها.
كما أن الرأي العام له مكونات يكون له تأثير قوي ومن ضمنها ارتباطه بعدد كبير من المجتمع، وأن تكون هناك فكرة أو موضوع معين لطرحه ومناقشته، وأن يوجد نوع من الإقناع وقرع الحجة بالحجة ليصبح هناك إجماع على مستقر لمفهوم سائد حول موضوع يمس الأغلبية في المجتمع، وهذا الاستقرار الفكري المدعم بالحجة ينعكس على سلوك الأفراد لاحقا وعلى السياسات العامة في نفس المجتمع بما يقود إلى ما يسمى التناغم الاجتماعي، وهو الرأي العام المستقر والمعروف لدى غالبية أبناء المجتمع ولا يحتاج إلى تدليل عليه أو إثبات له،
ذ يكتفي الفرد بالإشارة إلى أن هذا الأمر متعارف عليه باعتباره مستقرا اجتماعيا، ولعل بالمثال يتضح المقال، فعند سؤال المجتمع عن أمر يتعلق بأمر شرعي ليس فيه اختلاف تجد المجتمع مسلما به، ولا يناقش هذا الأمر لوضوح الحجة بالنسبة لهم، وبغض النظر عن الأمور الثانوية أو المتفرعة من الجانب الشرعي والمقصد هنا الأمور الأصولية التي ليس فيها خلاف، كالصيام في شهر رمضان، فهو أمر مسلم به، والرأي العام في المجتمع الإسلامي مسلم بهذه الشعيرة، وقس على ذلك بعض الأمور المسلم بها، وأما تلك التي قد يكون فيها اختلاف ففي هذه الحالة يتجه الفكر إلى تبين ووضع الحجج لإقناع الشخص الآخر أو المجتمع بضرورة إثبات وجهة نظره، ومن هنا يأتي التأثير، ومن هذا المنطلق سعى علماء النفس الاجتماعي خلال سنوات (1940- 1950) إلى تحديد مفهوم التأثير بالمعنى الواسع للكلمة باعتبار أن هناك «مؤثرا» بطريقة فعالة على «متأثر» وفق «محتوى» و«أدوات» تأثير محددة، وأن المؤثر له سلطة على أحداث هذا الأثر وتغيير فعل الإنسان من صورة إلى أخرى،
وهذا ما يقوم به الإعلام من عملية تشكيل الرأي العام في المجتمع عن طريق التحكم بما يسمى «الموجب الإكرامي»، وهو التطبيق الفعلي للقوة المادية التي تعاقب المتمرد، وهو ما يعرف بدافع الحس العام للمجتمع في تفسير العلاقة بين التأثير والمعالجة، ولكن ذلك هو عينة ما يحدث بصورة لطيفة، بإقناع المتأثر أن يرى الأشياء وفق منظار مؤثر ويعتمد على الإقناع كمحور رئيس، وعلماء النفس الاجتماعي قسموا مجال التأثير إلى مستويين:
1- مستوى القضايا القطعية التي لا يمكن التأثير على الإنسان بتجاوزها أو الاقتناع بضدها، مثل ما تطرقنا إليه سابقا في هذا المقال من الجوانب المسلم بها شرعيا، أو أن الشجرة ممكن أن تتحدث وهذه ما لا يمكن التأثير على الرأي العام فيها.
2- القضايا الخلافية وهي القضايا التي يمكن توجيه الرأي العام، وهو ما تنشط به وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حاليا لإدراكها وفق منظور محدد وبحوافز معقدة مثل الموقف من عقوبة الإعدام أو الانتحار في بعض الدول الأوروبية والغربية، لاحظ الغربيون أن تلك التصورات الخاطئة التي تزودهم بها وسائل الإعلام تجعلهم يدفعون ثمنا باهظا لعدم استطاعتهم توقع من يكون المجرم. وقد يدفعون الثمن مضاعفا حين اقتنائهم أجهزة المراقبة أو كلاب الحراسة التي قد تؤذي أهل المنزل ولا تساعد في القبض على المجرم،
لأن المجرم الحقيقي كان ملمّاً بمواقع أجهزة المراقبة فقام بتعطيلها، ولا بد لكل علاقة تأثير أن تمارس ضمن إطار عام ملتبس، فهي تبحث عن أسباب الالتباس وتوحي بنقص المعلومات تجاه هذا الالتباس، ويتم التأثير عن طريق إضافة أجزاء معلوماتية يقنع الشخص أنها جزء من التصور العام الذي يجب أن يتبناه. والتأثير بهذا التصور يرتبط نسبيا بالإيحاء الذي يدعم تفسير الوقائع بصورة تخدم هدف الإعلام في خلق التصور المقصود نحو الجريمة.
والإعلام عندما يصور الجريمة فإنه يبحث في عملية إقناع الآخرين بأن هذا الفعل مجرم ويضيف إليه ما يخدم الهدف الإعلامي، منطلقا إما من قواعد السياسة الإعلامية المرشدة أو أهداف الرواج في التجارة الإعلامية التي تسعى إلى الجذب الإعلامي واستقطاب أكبر عدد من المتابعين. وفي هذه المرحلة الأخيرة تبدو عمليات الغموض وعدم الوضوح في الرأي العام الذي قد يدفع إلى تصور الجريمة والتعامل معها بصورة غير ملائمة. وعند النظر إلى الدور الوقائي للرأي العام فقد لوحظ دراسة نشرها معهد «جالوب» الأميركي أن وعي الناس لواقع الجريمة أقل من واقع الجريمة ذاتها،أن صور التمييز المجافية للدستور وإن تعذر حصرها، إلا أن قوامها كل تفرقة أو تقييد أو تفضيل أو استبعاد ينال بصورة تحكمية من الحقوق أو الحريات التي كفلها الدستور أو القانون، وذلك سواء بإنكار أصل وجودها أو بتعطيل أو انتقاص آثارها، بما يحول دون مباشرتها على قدم من المساواة الكاملة بين المؤهلين قانونا للانتفاع به
كما أن اهتمامات الناس «الرأي العام» كانت تتركز على أبعاد تختلف عن واقع ما تعكسه الإحصاءات من أخطار قد يتعرضون لها. فنجد أن الرأي العام يقلق من القضايا الاقتصادية أكثر حدوثا، وتتصاعد وتيرتها بينما الجريمة بصورتها العامة تتراجع في المجتمع،
ولذلك نجد أن الرأي العام المستنير له دور وقائي في كبح اتجاهات الجريمة من خلال بناء الموانع الشخصية في ضمير الإنسان تجاه الأفعال المستنكرة اجتماعيا أو دينيا، ولكن قد يحدث أن يلعب الرأي العام المتأثر بالإعلام، دورا سلبيا في فهم الجريمة من خلال شيوع المفاهيم المغلوطة تجاه نوعية المجرم وأساليب الوقاية من حدوث الجرائم وكيفية التعامل معها، وهذا ما يسمى أخطاء صياغة الرأي العام التي تغفل بعض وسائل الإعلام إستراتيجية ذلك، والمقصود بذلك أن التهوين من شأن الجريمة أو المبالغة فيها يؤدي إلى قلة الحذر أو زيادته عن اللازم، مما يدفع المجتمع إلى الحيرة فيما مدى تقديره لوضع الجريمة في المجتمع.
وحيث إن من المقرر أن الأصل في الجرائم، أنها تعكس تكوينا مركبا باعتبار أن قوامها تزامنا بين يد اتصل الإثم بعملها، وعقل واع خالطها ليهيمن عليها محددا خطاها، متوجها إلى النتيجة المترتبة على نشاطها، ليكون القصد الجنائي ركنا معنويا في الجريمة مُكملاً لركنها المادي، ومتلائما مع الشخصية الفردية في ملامحها وتوجهاتها. وهذه الإرادة الواعية هي التي تتطلبها الأمم المتحضرة في مناهجها في مجال التجريم بوصفها ركنا في الجريمة، وأصلا ثابتا كامنا في طبيعتها،
وليس أمراً فجاً أو دخيلاً مقحماً عليها أو غريباً عن خصائصها. ذلك أن حرية الإرادة تعني حرية الاختيار بين الخير والشر. ولكلٍ وجهة هو مُوَلِّيها، لتنحل الجريمة – في معناها الحق – إلى علاقة ما بين العقوبة التي تفرضها الدولة بتشريعاتها، والإرادة التي تعتمل فيها تلك النزعة الإجرامية التي يتعين أن يكون تقويمها ورد آثارها، بديلا عن الانتقام والثأر المحض من صاحبها. وغدا أمرا ثابتا – وكأصل عام – ألا يجرم الفعل ما لم يكن إراديا قائما على الاختيار الحر، ومن ثم مقصودا. ولئن جاز القول بأن تحديد مضمون تلك الإرادة وقوفا على ماهيتها، لازال أمرا عسراً، إلا أن معناها – وبوصفها ركنا معنويا في الجريمة – يدور بوجه عام حول النوايا الإجرامية أو الجانحة أو النوازع الشريرة المدبرة أو تلك التي يكون الخداع قوامها أو التي تتمحض عن علم بالتأثيم، مقترناً بقصد اقتحام حدوده، لتدل جميعها على إرادة إتيان فعل بغياً.
وحيث إنه لا ينال مما تقدم، أن هذا الأصل – وإن ظل محورا للتجريم – إلا أن المشرع عمد أحيانًا – من خلال بعض اللوائح، إلى تقرير جرائم عن أفعال لا يتصل بها قصد جنائي، باعتبار أن الإثم ليس كامنا فيها ولا تدل بذاتها على ميل إلى الشر والعدوان، ولا يختل بها قدر مرتكبها أو اعتباره، وإنما ضبطها المشرع تحديدا لمجراها، وحداً من مخاطرها وأخرجها بذلك عن مشروعيتها – وهي الأصل – وجعل عقوباتها متوازنة مع طبيعتها، فلا يكون أمرها غلوا من خلال تغليظها، بل هينا في الأعم. وقد بدا هذا الاتجاه متصاعدا إثر الثورة الصناعية التي تزايد معها عدد العمال المعرضين لمخاطر أدواتها وآلاتها ومصادر الطاقة التي تحركها،
واقترن ذلك بتعدد وسائط النقل وتباين قوتها، وبتكدس المدن وازدحام أحيائها، وبغلبة نواحي الإخلال بالصحة العامة وبوجه خاص من خلال الاتصال بالمواد الغذائية سواء عند إنتاجها أو توزيعها وتداولها أو بمراعاة نوعيتها. وكان لازما بالتالي – ولمواجهة تلك المخاطر – أن يفرض المشرع على المسئولين عن إدارة الصناعة أو التجارة وغيرهم، قيودا كثيرة غايتها أن ينتهج المخاطبون بها سلوكا قويما موحدا، ببذل العناية التي يتوقعها المشرع من أوساطهم، ليكون النكول عنها – وبغض النظر عن نواياهم دالا على تراخي يقظتهم، ومستوجبا عقابهم. غير أن تقرير هذا النوع من الجرائم في ذلك المجال، ظل مرتبطا بطبيعتها ونوعيتها، ومنحصرا في الحدود الضيقة التي تقوم فيها علاقة مسئولية بين من يرتكبها، وخطر عام، لتكون أوثق اتصالا برخاء المواطنين وصحتهم وسلامتهم في مجموعهم وبإهمال من قارفه النوع الرعاية التي تطلبها المشرع منه عند مباشرته لنشاط معين، أو بإعراضه عن القيام بعمل ألقاه عليه باعتباره واجبا، وبمراعاة أن ما توخاه المشرع من إنشائها هو الحد من مخاطر بذواتها بتقليل فرص وقوعها،
وإنماء القدرة على السيطرة عليها والتحوط لدرئها. ولا يجوز بالتالي أن يكون إيقاع العقوبة المقررة لها، معلقاً على النوايا المقصودة من الفعل، ولا على تبصر النتيجة الضارة التي أحدثها، ذلك أن الخوض في هذين الأمرين يعطل أغراض التجريم، ولأن المتهم – ولو لم يكن قد أراد الفعل – كان باستطاعته أن يتوقاه لو بذل جهدا معقولا لا يزيد وفقا للمقاييس الموضوعية عما يكون متوقعا من الشخص المعتاد. وغدا منطقيا بالتالي، أن يتحمل الأضرار التي أنتجها، وأن يكون مسئولا عنها، حتى ما وقع منها بصفة عرضية أو مجاوزا تقديره.
ولازم ما تقدم أن هذا النوع من الجرائم – وتلك هي خصائصها – يعد استثناء من الأصل في جرائم القانون العام التي لا تكتمل مقوماتها إلا باعتبار أن القصد الجنائي ركن فيها “ولو كان المشرع قد أغفل إيجابه” ذلك أن هذه الجرائم لها من الخصائص “ما يُشين مرتكبها” ويتعين أن يكون قوامها “تدخلا إيجابيا مقترناً بالإرادة الواعية التي تعطي العمل دلالته الإجرامية” وبها يكون العدوان في الأعم واقعا على حقوق الأفراد أو حرياتهم أو ممتلكاتهم أو حيائهم أو آدابهم.
حرية الصحافة
إن تحديد الأفعال التي كان ينبغي أن تقوم عليها الجرائم محل الاتهام الجنائي، ضرورة يقتضيها اتصال هذه الجرائم بمباشرة الصحافة للمهام التي ناطها الدستور بها. وتوجبها مباشرة المحكمة الدستورية العليا لرقابتها القضائية التي تفصل على ضوئها فيما إذا كان الفعل المؤثم قانونا في نطاق جريمة النشر، ينال من الدائرة التي لا تتنفس حرية التعبير عن الآراء إلا من خلالها، أم يعتبر مجرد تنظيم لتداول هذه الآراء بما يحول دون إضرارها بمصلحة حيوية لها اعتبارها. ذلك أن الدستور كفل للصحافة حريتها بما يحول – كأصل عام – دون التدخل في شئونها، أو إرهاقها بقيود تؤثر في رسالتها، أو إضعافها من خلال تقليص دورها في بناء مجتمعاتها وتطويرها، متوخيا دوما أن يؤمن بها أفضل الفرص التي تكفل تدفق الآراء والأنباء والأفكار ونقلها إلى القطاع الأعرض من المواطنين، ليكون النفاذ إليها حقا لا يجوز أن يعاق، وباعتبار أن الدستور وإن أجاز فرض رقابة محدودة عليها، فذلك في الأحوال الاستثنائية، ولمواجهة تلك المخاطر الداهمة التي حددتها المادة 48 من الدستور.