فى أكتوبر الماضى أصدرالقضاء الأمريكى حكما بإدانة شركة ” لافارج للأسمنت ” الفرنسية، بتهمة تمويل جماعات إرهابية فى سوريا، من بينها تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش “، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وألزمها بأداء غرامة مالية كبيرة، وأكد القاضى فى منطوق الحكم أن المحكمة وضعت يدها على الأدلة التى تثبت قيام الشركة بتقديم أموال لتنظيم” داعش “، وباعت له كميات من الأسمنت، كما دفعت أموالا لوسطاء آخرين من أجل الحفاظ على مصنعها فى سوريا، وأنها لم تتصرف فى ذلك من تلقاء نفسها، وإنما بإيعاز من الحكومة الفرنسية، وهو مايعنى أن دعم الشركة للإرهاب كان دعما رسميا من حكومة فرنسا .
وبعد الحكم بأيام قلائل اعترفت ” لافارج ” بالجريمة، وأكدت فى بيان عام أنها قدمت بالفعل بين عامى 2013 و 2014 أموالا لداعش ومنظمات إرهابية أخرى فى سوريا، ( قدرت بحوالى 13 مليون يورو )، وأنها قبلت تحمل المسئولية عن ذلك، مبدية أسفها لهذه الأعمال، ووافقت على دفع مبلغ الغرامة المالية ( 778 مليون دولار ) لوزارة العدل الأمريكية .
لا أدرى كيف مر هذا الخبر علينا دون أن نتوقف عنده طويلا، ونعطيه ما يستحق من الاهتمام والتحليل، لنكشف حقيقة الإرهاب وصانعيه ومموليه، ونرد به على الاتهامات التى تلقى على الإسلام والمسلمين دون تمييز من قبل الغرب، ومن قبل فرنسا على وجه الخصوص .
ومن عجيب الصدف أن يأتى هذا الحكم الأمريكى متزامنا مع الحكم الذى أصدرته محكمة العدل الأوروبية فى أكتوبر الماضى أيضا بمنع المسلمات من ارتداء الحجاب فى مقرات العمل الحكومى والخاص فى جميع دول الاتحاد الأوروبى، باعتبار الحجاب رمزا دينيا، وهو ما يعنى حرمان المحجبات من الالتحاق بأى عمل فى دول الاتحاد إلا إذا خلعن الحجاب، وقد اتضح أن فرنسا كان لها دور مهم فى التحريض على صدور هذا الحكم .
وهنا تظهر المفارقة، فالشركة المدانة بدعم الإرهاب فرنسية، والقضاء الذى أدانها هو القضاء الأمريكى، أى أن أمريكا ـ راعية الإرهاب فى العالم ـ تدين فرنسا، أكثر دول أوروبا تطرفا فى العداء للإسلام والمسلمين، وهكذا يتضح أن هؤلاء القوم يلعبون على كل الحبال، يمولون الإرهاب ويحاربون الحجاب، ولك أن تفهم من هذه المفارقة المعنى والمغزى الذى يسعون وراءه .
وقبل أسابيع اتهمت دولة مالى فرنسا بدعم الجماعات االإرهابية التى ترفع السلاح على أرضها، لكن القضاء المالى لم يستطع البت فى ملف القضية، لأن مالى ليست أمريكا، وهناك تقارير عديدة تحدثت عن شراء بعض الشركات الأمريكية والأوروبية البترول من منظمات وجماعات مسلحة فى العراق وسوريا، وباعت لها السلاح مقابل البترول، وأسهمت بذلك فى دعمها ماليا وعسكريا، ثم يدعون بعد ذلك أنهم يحاربون الإرهاب !!
وفى العموم فإن تمويل الغرب للإرهاب ليس موضوعا جديدا، وهناك شواهد كثيرة تشير إليه، لكنها تظل شواهد لا أحد يستطيع أن يأتى بالأدلة الدامغة عليها، مثلما فعلوا مع ” لافارج “، التى كان لهم بالتأكيد مصلحة فى كشفها فى هذا التوقيت، ولعل أقرب وأوضح مثال على ذلك تنظيم ” القاعدة ” الذى بنته أمريكا وحلفاؤها الغربيون لبنة لبنة بزعامة أسامة بن لادن تحت مسمى ” الجهاد الإسلامى “، وأنفقوا عليه بسخاء ليحارب الاتحاد السوفيتى السابق فى أفغانستان، ثم عملوا على شيطنته بعد ذلك، وحولوه إلى تنظيم إرهابى دولى، ونسبوا إليه جريمة تدمير مبنى التجارة العالمية فى نيويورك قى 11 سبتمبر 2001، التى تعد أول وأسوأ جريمة ارتكبت داخل أراضى الولايات المتحدة .
وكذلك الأمر بالنسبة لتنظيم ” داعش ” الذى أنشأته قوات الاحتلال الأمريكى فى العراق ليكون تنظيما سنيا مسلحا يواجه التنظيمات الشيعية المسلحة، فانتقت عناصره ووفرت له التدريب والسلاح، وألزمت حلفاءها بتمويله، ثم قامت بشيطنته ودمغه بالتكفير والإرهاب، وتولت مهمة نشر جرائمه وأفكاره وممارساته المستهجنة إعلاميا، ونسبتها إلى الإسلام .
واللعبة الغربية فى صناعة الجماعات والتنظيمات السرية معروفة ومتكررة، والهدف منها دمغ المسلمين بالتطرف والإرهاب وتشويههم، وتقديمهم إلى العالم باعتبارهم كائنات وحشية غريبة، آتية من أعماق الماضى السحيق، ومن خارج التاريخ وخارج العصر والحضارة، والعمل بدأب لتكريس هذه الصورة الذهنية بواسطة الإلحاح الإعلامى، ولفت الأنظار بعيدا عن أية شخصية أو ظاهرة إسلامية إيجابية، والتعتيم عليها بسرعة كى لا تبقى عالقة فى الأذهان .
وحتى حركات المقاومة الإسلامية، التى يصمونها اليوم بالإرهاب، كان الغرب السبب فى نشأتها، كنوع من حماية الذات الوطنية والقومية والدينية فى وجه الاحتلال واغتصاب الأرض، ونهب مقدرات الشعوب وثرواتها، والعبث بالمقدسات وتقويض الهوية والثقافة الوطنية، وبعد هزيمة الاستعمار وانتهاء حقبة المواجهة العسكرية، ترك الغرب وكلاء صنعهم من شخصيات فكرية وأحزاب وتنظيمات سياسية تابعة له، ومعادية لأية مرجعية وطنية، قومية كانت أو دينية، وقدم لهم الدعم والتمويل لخدمة أغراضه، وليستثمرهم فى نشر الكراهية والانقسام داخل الشعوب، ولم يكن يعلم أن هذا التطرف سيخلق تطرفا أشد على الجانب الآخر، فالفكر المتشدد الذي يفتقد المرجعية الصحيحة متقلب بطبعه، ودائما ما يميل إلى العنف والتكفير .