عدت إلى شقتي في القاهرة بعد رحلة قصيرة لقريتي في الشرقية، لا أحد ينتظرني سوى الجدران، الشارع صامت كئيب على غير العادة، ربما هذا تعبير مبالغ: سألت نفسي لماذا مبالغ؟ الحقيقة إنه لم يعد هناك مدن ولا قرى، لا هوية لشيء، فقط عشوائية بغيضة، شغلت التلفزيون، بعد نصف ساعة من محاولة الحصول على فلم جيد، تركت الريموت محملا بعبء فشلي، تناولت كبسولتين “دورميفال” وجلست على المكتب ادخن سجارة وأجيب على بعض الرسائل الهامة سريعا، اثناء ذلك أتت”صباح الخير”في رسالة، تبعتها ثرثرة حول نقاش دار بيننا البارحة، سلسلة طويلة من سوء الفهم والجدل والتبريرات اللانهائية، في عتمة جمجمتي عنكبوت لا يكف عن نسج اسئلته لماذا يقدم الناس مبررات لكل فعل، اقترحت عليه أن نلتقي، نشرب فنجان قهوة ونتحدث وجها لوجه، أعتذر وبالطبع ككل الشرقيين استطرد في تقديم سلسلة طويلة من التبريرات التي استمرت لمدة عشرة دقائق على أقل تقدير، انتهت دون سبب واضح بالموافقة، ابتسمت متهكمة لما كل هذا اللف والدوران -طباعي تميل لنمط الغربي، أؤمن بقيمة الوقت، أعبر عن نفسي ببساطة وصراحة وبطريقة مباشرة- الشعور الذي تملكني في تلك اللحظة هو أن كلانا بحاجة للأخر في حياته، بالرغم من اختلافنا الكبير، جمعنا القدر الذي يتفنن دائما في جعل الأمور أكثر تعقيدا.
في مقهى بينوس استقبلني الجرسون بلطف، سألني إن كنت أريد الجلوس في ركن المدخنين، بغض النظر عن أني نسيت سجائري بجوار السرير، وافقت فورا، هناك شيء ما يشبهني في هذا الركن، رائحة تنتمي لي، مر الوقت ثقيلا، عقلي منتفخ بالمخاوف والتساؤلات كيف سيدور اللقاء، احتاج لوقت أطول لأرتب عقلي، أكره أن أكرر أخطائي أو أقع في لعنة الفهم الخطأ التي تلاحقني، استبد بي سخط عارم على لغتنا العاهرة التي تتلون كحرباء فليس هناك من كلمة واحدة لا تحمل عشرات الوجوه، همست: في نفسي: انتبهي للغتك، قاطعني الجرسون
– مساء الخير يا هانم، تحبي تشربي ايه..؟
– ممكن بعد شوية انا منتظرة حد هيوصل خلال دقايق
– تمام حضرتك
قبل أن يمتصني هلام أفكاري، وجدته يقف بجواري ماحيا مساحة السلام التقليدي بقبلة على رأسي، جلس كأنه لم يفعل شيئا، كان يحمل كتابا، قال إنه مهم بالنسبة لي، سيفيدني كثيرا، لا أعلم إن كان هذا اهتمام أم إستعراض لأستاذيته فهو لا يتوقف عن تكرار ملاحظاته حول كتاباتي، ربما مر أمامي في تلك اللحظة بعض الكلمات المستفزة التي كتبها تعليقا على نصي الأخير، ثم ببساطة من يعرف الأخر منذ أعوام بدأت الحديث:
– عجبك المكان ..؟
– اه لطيف
– انا أصلي مبحبش مدينة نصر، عشان كده معرفش فيها أماكن كتير
– مبتحبيهاش ليه..؟
– بداية الانهيار السبعيناتي، اتعملت لاستيعاب فلوس المصريين الي في الخليج، عشان كده تحسها ملهاش طعم، مبانيها ملهاش طابع موحد، ولا فيها أي إهتمام بالجانب الجمالي، وناسها مش شبه بعض، متقدريش تحددلهم مستوى معين، ولا انتمائات فكرية واحدة
– صحيح، عشان كده الأخوان لما اختاروا رابعة مكنش عبث.
لم أجب اكتفيت بإبتسامة، اردف يسألني عن خطتي للقاء وان كنت أفضل الذهاب لمكان آخر، لم يكن لدي خطة، لم يكن هناك نية للخروج من الأساس، كل الأشياء إبنة لحظتها، عرض عليا الذهاب لبار بوسط البلد، وافقت على الفور، لم أذهب لبار سابقا، نسف المكان كل تصوراتي عن البارات التي شكلتها في ذاكرتي أفلام الستينات، المكان أشبه بكافية بسيط مجموعة من الطاولات وبار ممتد عليه بعض الكراسي الخالية، كنا وحدنا تقريبا في المكان، رافقتنا زجاجة عمر الخيام وطبق ترمس وعلبة سجائر بنكهة التوت الأزرق، كانت نيتي أن أشرب كأس واحد وأدخن سجارة أو سجارتين، لكن تحول الكأس إلى زجاجة والسجارة إلى علبة، ربما المكان المسالم قضى على التوتر، الرغبة في التحرر لعنة أبدية تطاردني.
انزلقت في الكرسي للأسفل قليلا، توسدت ذراعة الذي التف حول كتفي، أصبح الحوار أكثر سلاسة، الجمل المبتورة اكتملت، المساحات الضيقة اتسعت، الحلم بالفضفضة دون الشعور بالتورط مع شخص يتصيد الأخطاء ويربك علاقتك بالعالم أخيرا تحقق، العالم على هذه الطاولة البيضاء أجمل بكثير، عشرات ماذا لو ماتت هنا، فوق طاولة الأحلام المشروعة، هنا دفئ يقتل البرد الذي يأتي من الداخل، ازدحم المكان فجأة، أكثر ما ادهشني إن العديدات من اللاتي جلسن مع أصدقائهن على البار كن محجبات -فخ التناقضات الذي لا ينجو منه أحد في بالوعة العفن التي نعيش فيها- شعرت بمطرقة ثقيلة تدق رأسي، حاولت إجبار يدي على الحركة لتجس موضع الألم دون جدوى، سحبتني مرة أخرى دوامة المسرح الواسع الذي لطالما تركت حبوب النوم ستارته مواربة لتتسلل الحكايات…