الاختلاف في الرأي لا يُفسد للودِّ قضية.. لكن اختلافنا اليوم ما كان فى الرأى أبدًا، وإنما فى طرق التعبير عن همومنا ومشاكلنا وأزماتنا كمصريين، لأن الرأى بمفهومه الصحيح، يعنى إلقاء شخص ما عُصارة فكره وفهمه لحلحلة قضية من القضايا الحياتية التى تتعلَّق بالشأن العام كله، دون أن تكون النزعة الشخصية، أو المصلحة الخاصة على طاولة المُعادلة، ودون وجودٍ – من قريبٍ أو بعيد- للغة السباب والشتائم، والاستقواء بالغير، أو التخفِّى وراء ستارٍ، وإعلان الهجوم، وشن الحرب، حين لا يتم تنفيذه والإصغاء له، لعدم تماشيه مع صالح الدولة وأهدافها التنموية، فذلك يُعرف علميًا بفرض الإرادة، وديكتاتورية القرار، وقسرية التنفيذ.
وينبغى علينا جميعًا، أفرادًا وكيانات، التوقُّف والتروى قليلًا حين يكون الوطن محور حديثنا، ودائرة الاهتمام التى نتناولها فى مناقشاتنا وآرائنا بالداخل والخارج، لأن الأوطان لها قُدسية وحُرمات يجب أن تُصان ولا تُنتهك، ولا بد أن يعرف كلُّ آدمىٍّ يعيش على أرضٍ أنها بالنسبة له ليست رقعةً محدَّدةً يُقيم عليها، ولا مساحةً يتملكها ليبيع ويشترى فيها، أو محل إقامة ينتسب إليها وفقط، وإنما هى عِرضٌ، الحفاظ عليه من فروض العين، وشرفٌ الذود عنه بطولة، والموت دونه شهادة، ومَن أحلَّ استباحته كان كالتيس المُستعار، كما أنها تُعدُّ فى قوانين السماءِ مسجدًا نتعبَّد فى باحته ونحن على طهارة جسدية وروحية تامة، وكنيسًا نتجمع بنداء أجراسه للصلوات، ونستقبل فى رحابه العظات، لنعيش معًا فى تسامحٍ ومحبَّةٍ وإخاء، تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”.
لقد خُدعنا كثيرًا بمعسول القول من بعض الأبواق المُتفوِّهة خلال الأعوامٍ الفائتة، التى تُجيد إلقاء الخُطب العصماء، وتتمرَّس التمثيل وفن الأداء، وتُتقن الحِبكة وسُبل الإقناع، وتعلم نقاط الضعف ومواضع التأثير، وعشنا مسرحيات هزلية على مسارح المُهرجين والبهلوانات، فتراقصت أجسادنا البالية، وتغنَّت أفواهنا الجائعة، وسارت أقدامنا المُتعبة؛ لهثًا خلف الثراب، رُوحنا مرات ومرات نبحث عن رَغد العيش، وطِيب المعيشة، تصديقًا للوعود الكاذبة، وثقةً فى النفوس المريضة، لكننا عُدنا كما ذهبنا وأيدينا تلطم وجوهنا، بعد أن تكشَّفت لنا الحقائق واضحةً جليةً، بأن المُستهدف وطن، والمخدوع مواطن، ومصلحة الواحد مُقدَّمةٌ على مصالح الجمع، وندمنا بعد أن أصبح الندم غالى الثمن، مرتفع التكلفة.
الغريب أنه ما زال مَنْ يُحاول لدغنا من الجُحر مرتين وثلاثة وأربعة، ولا يستكفى، وكأنه يُخبرنا بأننا عشقنا التكرار الرتيب فى كل شىء، حتى فى الفشل، لم نعرف إلى الآن أن للثورات أصولًا ومبادئ وأهدافًا تُقام لأجلها، أهمها حماية الوطن وصون مُقدساته، والعمل على الدفع به قُدمًا للأمام، اقتصاديًا وتنمويًا ومعيشيًا وأخلاقيًا وآدميًا، ولك أن تفتح من الأقواس ما شئت، وضع فيها ما يحلو لك، وجميعها سقطت من الحُسبان فى فترةٍ من الزمن، إذ بالفعل رأينا فى عهودها الشللية، والواسطة والمحسوبية، وحديث النفوذ وأصحاب الكراسى الذهبية، شاهدنا غطرسة المسئول لفئة، ومحاباته لأخرى، ومنعه لهذا، ومنحه وذاك، رغم أن الكلَّ مصرىٌّ، سليل أبٍ وأمٍ مصريين، لم يطالهما التجنيس والتدنيس، فكانت القاعدة تقول لا يرد الظالم عن ظُلمه إلا مَنْ ولاه، ولا يعزله سوى الذى نصَّبه على رأس السلطة، وأعطاه الصلاحيات ليكون بها الآمر الناهى، هكذا قامت، وهكذا كانت الثورات، وغير ذلك تكون الهمجية والغوغائية والفوضى فى أسوأ حالاتها.
عقب ثورة يونيو من العام 2013، تفجَّرت ينابيع المشروعات فى ربوع محافظات المحروسة دون استثناءٍ، والعدد آخذٌ فى اضطرادٍ وازديادٍ يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، سكنية وصناعية واستثمارية، وسياحية وخدمية وغيرها، بل إننا تقدَّمنا من مرحلة العجز والاستيراد فى خدمات وسلعٍ حيوية وضرورية، إلى الاكتفاء والتصدير، لا داعٍ لسردها، لأنها معروفة للجميع، بعد جهادٍ شاق لجمع مصادر التمويل، وإبرام التعاقدات والاتفاقيات مع مؤسسات وشركات التنفيذ المحلية والدولية، العملاقة، للبحث والتنقيب، وإعداد دراسات الجدوى باهظة التكاليف، واستطاعت فى مدة زمنية قصيرة، منحنا قبلة الحياة لنحيا من جديد، وعاد نجم دولتنا يسطع عالميًا، بعد غيابٍ عن قارتنا السمراء والساحتين الإقليمية والعالمية طويلًا، لتكون مصرنا أم الدنيا على ألسنة كل الدنيا، وفى عقول مُحلليها ومفكريها وخبرائها، محل دراسة وتمحيص، للتجربة الناجحة لدولة عانت الثورات والنكبات، وكانت قاب قوسين أو أدنى من السقوط والهبوط، وبعزيمة رجالها المخلصين، قيادةً، وحكومةً وشعبًا، وبمساندة أبطالها من رجال الجيش والشرطة، الذين وفَّروا عوامل الأمن للمكتسبات، أن تنهض بسرعة الريح فى أقل من تسع سنوات.
وإذا كان الإصلاح هو المستهدف من الثورة الأخيرة، فإنه قد تحقَّق بالفعل، ولا يُنكر ذلك إلا جاحدٌ، وعلى جميع المستويات، وأتحدى أى شخصٍ يذهب بمُد بصره لبلدةٍ مما تُسمى فى لغة العالم المُتحضِّر والمُتمدن، كبرى، فعلت كما فعلت قاهرة المعز، فى بضع أعوامٍ لا تصل لكفَّى اليدين فى العدد والتعداد، من مشروعات، وإنجازات، وإعانات، ومبادرات صحية وتعليمية وتنموية، وبناء إنسان واحتواء شباب، وتمكين مرأة، ودمج ذوى حاجات فى المجتمع، وتخصيص أيام للمهمشين والمبدعين والمبتكرين، وتوطين الاستثمار وجذب رجال الأعمال والسياح، وتعريف العالم بالحضارة المصرية، وببطولات المصريين قديمًا وحديثًا، ناهيك عن النجاح منقطع النظير فى التغلُّب على أعتى الأزمات التى أطاحت بثروات الدول وأموالها وأرواح شعوبها، بدءًا من الأزمة المالية العالمية، مرورًا بفيروس كورونا المميت، وانتهاءً بالحرب الروسية الأوكرانية، التى أوقفت عجلة الزمن عن الدوران.
على أرض السلام شرم الشيخ، يجتمع العالم بقياداته ومندوبيه وممثليه الآن.. نعم مصر فى عُرسٍ دولىٍّ بشهر الثورة المزعومة من فئةٍ ضالة؛ لمناقشة أخطر تحديات الكرة الأرضية، أزمة تغيُّر المناخ، تتباحث الحلول، وتعرض المقترحات وسُبل الخروج من المأزق الذى يُهدِّد البسيطة بالفناء، وقد جاءها القاصى والدانى مُلبيًا، ناصتًا مُستمعًا لها، لا أقول لهؤلاء الشرذمة المارقة، التى تُؤذن فينا من قنوات الشر فى الخارج وديارها، لا تفضحونا كما قال سيدنا لوط لقومه، لأن صوتهم لا أحد يسمعه من الأساس، لا فى الداخل أو الخارج، كونهم سوابق وعليهم أحكام، وصُحفهم الجنائية تُشير لسُمعتهم جيدًا، وإنما أُخبرهم بأن الحادى عشر من نوفمبر كالثانى والثالث عشر منه فى هذا العام والأعوام المقبلة، سيحتفل المصريون جميعًا بتكرار أقلام عنتر السبع على وجوههم السوداء، فشعبنا ليس غبيًا ولا ميئوسًا منه، بل بات أكثر نضجًا ووعيًا بنهيقهم، وله صولات وجولات فى نفوسهم الخبيثة، دوَّنها التاريخ فى سجلاته، للأجيال التى تأتى بعدنا.
وأخيرًا، يجول فى خاطرى سؤالٌ لكم، لماذا إلى اليوم لا نرى شعوبًا مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وغيرها، تدعو للتظاهر، وقد فاض الكيل بها فى أزمات الطاقة والغذاء والعلاج وارتفاع أسعار الخامات والسلع، واشتد الخناق على أهلها جرَّاء الأزمات الأخيرة، خاصةً بعد نحو ثمانية أشهرٍ من الحرب الدائرة حاليًا على أراضى أوكرانيا، رغم أنها دولٌ كبرى، ولها تكتلات اقتصادية وتحالفات دولية، واقتصادات بلدانها عفية، ولم تشهد ثورات ولا إرهابًا أو فوضى كما شهدنا؟.. أعتقد أنكم من السذاجة بمكان، وتقرأون الكتاب من صفحاته الأخيرة دون فهمٍ لمحتواه جيدًا.. حفظ الله مصر من الغباء والأغبياء وجعلها عالية الراية، مرفوعة الهامة، فى عين أعدائها وحاسديها والحاقدين عليها، وما أجود مناخ نوفمبر فى المحروسة، ليكون العالم فى ضيافة مصر، رحِّبوا معى بضيوفنا الكرام على أرض السلام.