توقفت طويلا أمام خبرين فى الصفحة السادسة بجريدة «الأهرام»، الخميس الماضى، ربما تكون لهما علاقة وثيقة ببعضهما البعض فيما يتعلق بالاستعمار الاستيطانى، وحتمية زواله، طال الوقت أم قصر.
المانشيت الرئيسى للصفحة كان يدور حول العملية الفلسطينية، التى تم تنفيذها فى القدس الغربية، وأسفرت عن مصرع وإصابة 23 إسرائيليا إثر تفجير عن بُعد بعبوتين ناسفتين، بفارق زمنى بينهما مقداره 30 دقيقة.
عناوين الخبر أشارت إلى رفع حالة التأهب فى القدس، فى حين طالب اليمينى المتطرف إيتمار بن غفير، الذى تولى وزارة الأمن الداخلى فى الحكومة الإسرائيلية الجديدة، بالعودة إلى سياسة الاغتيالات، داعيا إلى اجتياح واسع للضفة الغربية.
أسفل خبر تفجيرات القدس جاء خبر لقاء الملك تشارلز مع رئيس جنوب إفريقيا، سيريل رامافوسا، فى قصر باكنجهام، الذى ألقى فيه «تشارلز» أول خطاب أمام زعيم أجنبى بعدما أصبح ملكا، واعترف فيه بالأخطاء التى وقعت فيها المملكة المتحدة، مؤكدا أنه لايزال ملتزما بضمان اعتراف المملكة المتحدة بـ«الأخطاء التى شكّلت ماضينا»، داعيا إلى تعاون مستقبلى.
بريطانيا بدأت غزو جنوب إفريقيا فى الفترة من 1795 إلى 1806 عن طريق الهجرات المجمعة، التى أسست وأقامت العديد من المستوطنات فى المناطق المختلفة من جنوب إفريقيا، بهدف نهب ثرواتها من الماس والذهب، وظل الصراع قائما حتى أقيم اتحاد جنوب إفريقيا، المتمتع بالحكم الذاتى، والتابع للإمبراطوية البريطانية فى 1910.
استمر الصراع، وازدادت حدته بين شعب جنوب إفريقيا والاستعمار البريطانى، على الرغم من محاولات الاستعمار استخدام أنماط وأساليب مختلفة تتعلق بإقامة نظام فصل عنصرى، تكون فيه السيادة للمستعمرين الأجانب، ويظل أصحاب الأرض الأصليون فى مرتبة متدنية.
فشلت كل المحاولات التى استخدمت كل وسائل العنف حتى نال شعب جنوب إفريقيا حريته فى 1994، حينما حقق حزب «المؤتمر الوطنى الإفريقى»، بزعامة الزعيم نيلسون مانديلا، انتصارا كاسحا فى أول انتخابات ديمقراطية، بعد عقود طويلة من الكفاح المسلح، والمفاوضات الشاقة والمريرة.
معنى ذلك أن الاستعمار، الذى بدأ فى عام 1795 واستمر حتى عام 1994، قد انتهى إلى غير رجعة، على الرغم من استمراره 199 عاما كاملة، أى لمدة قرنين من الزمان تقريبا.
لم تتعظ إسرائيل بعد من كل التجارب الاستعمارية السابقة فى جنوب إفريقيا أو غيرها، ولاتزال تمارس أشد درجات العنف والقسوة والتنكيل فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.
لم تكتف إسرائيل بإقامة وطن قومى لليهود على حدود ما قبل يونيو 1967، لكنها تريد أن تبتلع كامل الأراضى الفلسطينية، مستخدمة فى ذلك أبشع أنواع التفرقة العنصرية والحصار، وبناء جدار للعزل العنصرى، واللجوء إلى الاغتيالات، والاجتياح المتكرر للمناطق الفلسطينية، رغبة منها فى قتل الحلم الفلسطينى، وطمس هوية الفلسطينيين.
ربما يكون إسحق رابين هو آخر القادة الإسرائيليين المؤمنين بالسلام، وقد تم منحه جائزة «نوبل للسلام» فى 1994 مع كل من الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات، وشيمون بيريز، الذى كان يشغل منصب وزير خارجية إسرائيل آنذاك.
لعب «رابين» دورا رئيسيا مع الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات فى التوصل إلى معاهدة «أوسلو» للسلام، التى ظهرت بموجبها السلطة الفلسطينية فى كل من قطاع غزة والضفة الغربية، لتكون بداية تحقيق العيش المشترك، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
للأسف الشديد لم يكتمل العرس، ففى أثناء مؤتمر حاشد مؤيد للسلام بتل أبيب، أطلق أحد الإرهابيين الإسرائيليين النار على إسحاق رابين، ليلقى حتفه بعد نقله إلى المستشفى خلال محاولة إنقاذه.
كان من المفروض أن تحاصر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الإرهاب، وتستأصله فى إسرائيل بعد مصرع رئيس الوزراء الإسرائيلى إسحق رابين، إلا أنه مع الأسف حدث العكس، وتنامى الإرهاب والتطرف رويدا رويدا، فى الوقت الذى اختفى فيه الاعتدال، وخفت صوت السلام إلى أدنى درجاته، كما حدث فى الانتخابات الأخيرة، وفشل حزب «ميرتس» فى الوصول إلى عتبة التمثيل فى البرلمان الإسرائيلى، لأول مرة، منذ تأسيسه فى 1992.
فى الوقت الذى توارت فيه أصوات السلام والاعتدال فى الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، عادت، وبقوة، أصوات اليمين المتطرف تنعق كالغربان، وتهدد الأمن والاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط.
فاز تكتل اليمين المتطرف، بزعامة رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، بالأغلبية النيابية فى الانتخابات الأخيرة، بعد حصوله على 64 مقعدا، ليتم تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة خلال المرحلة المقبلة، التى من المتوقع أن تضم الكثير من الأصوات اليمينية المتطرفة بشكل غير مسبوق على غرار إيتمار بن غفير، وغيره من صقور اليمين المتطرف الإسرائيلى.
من المتوقع أن تعيش الأراضى الفلسطينية فوق صفيح ساخن خلال الفترة المقبلة، حيث تحاول الحكومة المنتهية ولايتها اللجوء إلى أقسى أساليب العنف فى التعامل مع كل ما هو فلسطينى، حتى لا تكون عرضة للسهام السامة الموجهة من الحكومة الجديدة، الجارى تشكيلها الآن برئاسة بنيامين نيتانياهو، ومعه كل صقور اليمين المتطرف.
الأسوأ سوف يظهر مع بدء ولادة الحكومة الجديدة، وخروجها إلى النور، والتى من المتوقع أن تنتهى مشاورات تشكيلها خلال الأيام القليلة المقبلة.
فى فترات حكم نيتانياهو السابقة، التى امتدت من 2009 إلى 2021، أى ما يقرب من 12 عاما، ازدادت الضغوط على الشعب الفلسطينى، وزادت أساليب التنكيل والحصار، والاغتيالات، والاقتحامات خلال تلك الفترة العصيبة، وبذل «نيتانياهو» جهدا ضخما لوأد حلم الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
بعد سقوط «نيتانياهو»، ولدت حكومة نفتالى بينيت «مريضة» و«مشوهة»، لأنها ولدت من رحم ائتلاف برلمانى «هش» من يمين الوسط إلى اليسار، ولم يمتلك «نفتالى»، وخليفته، يائير لابيد، شجاعة القدرة على المواجهة والانتصار للسلام، كما فعل إسحق رابين من قبل، وكانت النتيجة حكومة «عرجاء» سقطت فى أول اختبار، وبسبب مواقفها المترددة انفض عنها الناخبون، واعتزل «نفتالى» العمل السياسى، وتراجع أداء حزب يائير لابيد والمتحالفين معه، وخسر تكتل الحكومة المنتهية ولايتها أعدادا كبيرة من المقاعد لمصلحة اليمين المتطرف.
أعتقد أن المصالحة الفلسطينية، ولم الشمل الفلسطينى، باتت من أهم الأولويات الآن فى ظل التطورات بالأراضى الفلسطينية، والتدهور المتوقع حدوثه خلال المرحلة المقبلة.
المصالحة لم تعد «رفاهية»، وإنما أصبحت «ضرورة ملحة» فى ظل صعود اليمين الإسرائيلى المتطرف، وتشكيله الحكومة الجديدة، وما يترتب على ذلك من أعمال عنف أو حصار، واقتحامات متصاعدة خلال الفترة القادمة.
مصر بذلت وتبذل جهودا ضخمة فى مساندة الشعب الفلسطينى، ولاتزال تقوم بدروها المحورى فى هذا الإطار، بوصفها المعنية بالدرجة الأولى بهذه القضية، ولم ولن تبخل بأى جهد لمساندة الشعب الفلسطينى الشقيق، لتحقيق حلمه فى إقامة دولته المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
لم تبخل مصر بدماء الشهداء منذ حرب 1948 وحتى أكتوبر 1973، ولم تبخل بالدعم والمساندة المادية فى كل الظروف والأحوال حتى الآن، والمهم الآن أن يلتئم الشمل الفلسطينى، ويقف صفا واحدا، لكسر موجة اليمين المتطرف الإسرائيلى المقبلة.
أتمنى أن تجد كلمات وتصريحات الملك تشارلز، التى أدلى بها أمام رئيس جنوب إفريقيا، صداها لدى الشعب الإسرائيلى وحكومة نيتانياهو الجديدة، ليعيد النظر فى مواقفه من السلام والعيش المشترك، والاعتراف بأخطاء الماضى فى حق الشعب الفلسطينى، الذى من المؤكد أنه لن يتنازل عن حقه المشروع، وحلمه فى إقامة دولته على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.