لا أظن أن أحدا ممن شاركوا في مونديال كأس العالم لكرة القدم في قطر لاعبين أو متفرجين، ولا حتى ممن شاهدوا وتابعوا عن بعد يمكن أن ينسى هذا الحدث العالمي الفريد، لأنه مونديال مختلف شكلا ومضمونا، ليس فقط من حيث مهارات الفرق المشاركة ومفاجأتها، ولكن أيضا من حيث الجدل الواسع المثار فى كل لحظة وفي كل مكان بشأن قضايا غير رياضية فرضت نفسها على الجميع، حتى اليتصور المراقب أن المونديال اختصر التاريخ والجغرافيا في لحظة النقاء استثنائية بين أهل الأرض جميعا لا ليلعبوا الكرة فقط، وإنما ليرى بعضهم بعضا على حقيقته بالهيئة التي يريد أن يكون عليها وفق هويته وشخصيته الثقافية والدينية
ومنذ أن قررت قطر أن تستضيف هذا المهرجان الدولي يوجهها الحقيقي، باعتبارها أول دولة عربية وإسلامية تتولى تنظيم البطولة العالمية، ظهر تيار مناوي في الغرب أراد أن يجعل من المونديال ساحة للصدام الحضاري والديني، فأثيرت في وجه القطريين من الأمير تميم إلى المنظمين المحليين قضايا الصدام الخلافية المعروفة، مثل الخمور والشذوذ والحريات والمعارضة السياسية والحقوقية وكان الرد القطرى واضحا وثابتا ، ، لاخمور، ولا شوان أنتم في بلد مسلم، لكن لا مانع من الاعتراضات السياسية والحقوقية المنظمة.
وبينما لم تكن هناك أية مشاكل من جانب دول الشرق روسيا والصين واليابان والهند وكوريا وغيرهم كانت الهجمة الغربية شرسة ، ولكن الموقف القطري طوال ۱۲ عاما من الإعداد للمونديال كان منطقيا ومقنعا ، نحن حين نأتي إليكم تحترم ثقافتكم وتقاليدكم وقوانينكم وطريقتكم في الحياة، رغم اختلافنا عنكم، وأنتم تقولون لنا عندما تكون في روما افعل كما يفعل الرومان، فلماذا لا تحترمون ثقافتنا وخصوصيتنا وقوانيننا وتقاليدنا عندما تأتون إلينا في بلادنا …
وكانت البداية الموفقة التنسيق المستمر مع الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفاء الذى يتولى تنظيم البطولة، حتى يقتنع بوجهة النظر القطرية، وفى المساجلات الصعبة الأخيرة رأينا كيف وقف رئيس الفيفا جياني إنفانتينو . الأوروبي المسيحى يدافع بقوة عن الموقف القطري ويتهم الغرب بالنفاق وازدواجية المعابير، خصوصا فيما يتعلق بقضية الشذوذ ومنع الخمور والبيرة في الملاعب ومحيطها وفي ملف وفيات العمال المهاجرين الأجانب وسجل حقوق الإنسان.
قال إنفانتينو في مؤتمر صحفى عشية افتتاح المونديال إن قطر لن تفتش عن المثليين وتمنعهم من الدخول وتشجيع نواديهم، لكنها تمنعهم من الجهر في الدعاية لأنفسهم ورفع أعلامهم، لأنهم في بلد مسلم يجرم الشذوذ كما تجرمه المسيحية واليهودية، ولن تمنع أحدا من شرب الخمر في حجرته لكنها تمنع السكر في الشوارع وتعاقب عليه، وتمنع تداول الخمور والبيرة في الملاعب ومحيطها كما تفعل فرنسا، وقطر تفتح أبوابها للعمال المهاجرين الأجانب من الفقراء الذين يبحثون عن عمل، وتفتح مكاتب التعويض أسر من مات منهم أثناء عمله، بينما تحارب أوروبا هؤلاء المهاجرين وتمنعهم من دخول أراضيها، وتتركهم للموت فى البحار والمحيطات، وفوق ذلك وافقت قطر على أن تمنح حق التظاهر لمن يريد أن يثير قضية هؤلاء العمال
أما فيما يتعلق بالدين فقد أرادت قطر أن تقدم للعالم دينها الإسلامى فى صورة واقعية وعملية صادقة، بعد أن تم تشويهه في الغرب بضراوة على مدى سنين طويلة، لم تستهدف إجبار الحشود الرياضية على تغيير عقائدها والدخول فى الإسلام، وإنما جاءت بالدعاة المعتدلين الذين يجيدون التعبير عن قيم الإسلام وأخلاقه ومبادئه وأذنت لهم بأن يشرحوا دينهم للحشود في مختلف الأماكن. وطبعت الملصقات والمنشورات التي تشرح الإسلام لمن لا
يعرفه باختصار، أرادت قطر أن تقول لحشود المشجعين الذين جاءوا من الشرق والغرب إن العالم ليس أوروبا وأمريكا العالم متنوع ومتعدد وفيه أناس آخرون لهم طريقتهم المختلفة في الحياة، ولهم تقاليدهم وثقافتهم ودينهم وهيمنة الغرب العسكرية والعلمية على العالم هي التي جعلت الكثيرين يتوهمون أن الغرب هو محور العالم بل هو العالم. وعمدت إلى التأكيد على أن الهدف من المونديال أسمى من أن يكون للكرة فقط، وإنما للتعارف والتصالح بين الشعوب وإتاحة الفرصة للقاء القادة والشعوب على أرض محايدة
بما يحمل رسالة سلام وأمان للجميع .. ورغم استفزازات بعض المشجعين العنصريين الذين أصروا على التحدي وارتدوا ملابس مقاتلي الحروب الصليبية ليذكرونا بويلاتها وجرائمها، فإن هناك مشجعين آخرين كانوا جيدين في التعبير عن ثقافتهم وحضارتهم وتقاليدهم الراقية كاليابانيين مثلا الذين أصروا على تنظيف مقاعدهم بعد أن انتهت مباراتهم، وتبعهم مشجعون آخرون عرب وأجانب قلدوا فعلهم لما استحسنوا الفكرة
لهذه الأسباب سيكون مونديال قطر ٢٠٢٢ محطة مهمة في تاريخ البطولة العالمية محطة لاتنسي.