بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية سنلقي الضوء على بعض جوانب اللغة العربية التي تتفوق بها على غيرها من اللغات، ومن هذه الجوانب أنها لغة القرآن الكريم، ولغة العبادات ، ولغة العلوم والآداب الإسلامية كلها منذ بعثة حبيب الحق وخير الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد نزل بها الوحي الإلهي، ودُوِّنَت بها الحديث النبوي الشريف، وعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها ، وكذلك السيرة النبوية والتاريخ، وغير ذلك من العلوم الإسلامية، إن اللغة العربية هي أساس فخزنا وعزنا وانتمائنا، ولقد سـعت الكثيـر مـن الأمـم والـدول والإمبراطوريات علـى مـر العصـور وتتابع الدهور إلـى إعـلان الحـرب علـى المسـلمين في مختلف المجالات؛ وبمختلف الطرائق والأساليب ومن بينها السعي لخلخلة اللغة العربية لأنهم يعلمون أن بســقوطها أو حتى زعزعتها ســوف يزلزلون الأمتيــن العربيــة والإسلامية معــاً ، وقد تناسى هؤلاء جميعاً أن الله خير حافظاً، وأنه كفيل ببقائِها، فقد تعهد جلَّ شأنه بحفظها ما دام النص القرآني الشريف باقٍ يُتلى ويتعبد به، وهو باق إلى أن يرث الله الأرض والسموات وذلك بقيام الساعة ، فقد قال جل شأنه في محكم تنزيله في سورة الحجر:( إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).
فاللغة العربية من أقدم اللغات على وجه الأرض، ومن أهم اللغات التي استمرت عبر العصور، ولم تكْمُنْ ولم تنقرض ولم تتوارى.
إن دور اللغة العربية دورٌ جوهري في تحصين الهوية الوطنية وفي ترسيخ قيم الانتماء الوطني والتماسك الاجتماعي، وبما أنه لا مفر من الانفتاح على مختلف اللغات و الثقافات والحضارات، فإننا نجد أن المأثورعن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه من بعده وعن التابعين رضي الله عنهم أجمعين أنهم لم يكونوا يقبلون على تعلم لغة غير لغة العرب إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كما حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتحسن السريانية؟ إنها تأتيني كتب” قال: قلت: لا، قال: “فتعلمها” فتعلمتها في سبعة عشر يوماً.
وثبت عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب يهود، وقال: إني والله ما آمن يهود على كتابي.
ولكن لا مساومة في استبدال لغة الهوية والدين والعلم والحضارة بأي لغة أخرى مهما كانت المغريات ، ومهما كانت الضغوطات ومهما كانت المكاسب.
فلغة الأمة كما قالوا : هي عنوان وجودها و مصداق هويتها ونسغ حياتها ووعاء ثقافتها ومجتلى حضارتها ومرآة نهضتها وحاضنة تراثها و وهي ذاكرة الأمة وتاريخها، ووجود الأمة مرتبط بوجود لغتها، والأمم التي انقرضت لغاتها زالت من الوجود، ولا بقاء لأمة يتخلى أهلها عن لغتها.
ولبيان الجهود العربية التي بذلت وتبذل في سـبيل الحفاظ على اللغة و سلامة استعمالها ، يتطلب الأمر إلقاء نظرة على أصل العربيـة الباقية وأصل الناطقين بها ، هذه العربية الباقية التي لا تزال تحيـا وسـط لغـات متعددة في عصر يفرض البقاء للأقوى ، و الأقوى في الاستعمال اللغوي هو الأكثـر شيوعاً واستعمالاً ، وهذا بحسب عدد الناطقين باللغة.
والعرب في التاريخ قسمان كبيران : العرب البائدة و العرب الباقية
أما العرب البائدة فهم بقايا أقوام جديس وطسم وثمود وعاد وجرهم بينما العرب الباقية: القحطانيـة والعدنانية ، أما القحطانية فإنهم ينتسبون إلى قحطان بن عابر ليصل إلى سام بن نوح عليه السلام ، بينما ينتسب العدنانية إلى عدنان بن أدد ليصل إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
يقول المؤرخ المصري محمد بيومي مهران في كتابه الموسوعي (دراسات في تاريخ العرب القديم): لعل من الأفضل هنا أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى أننا لا نعني بالعرب البائدة والعرب الباقية، أن أقواماً قد انقرضوا فلم يبق منهم أحد، وأن أقواماً لم يكونوا ثم نشأوا من جديد، وإنما ما نعنيه أن قوماً قد يقل عددهم بالكوارث أو بالذوبان في آخرين، لسبب أو لآخر، ومن ثم يتوقف تاريخهم وتبطل حضارتهم، مع أن بقاياهم لا تزال موجودة، ولكنها بدون قيمة حضارية، والتاريخ في حقيقته إنما هو تطور الحضارة، وعلى أية حال، فتلك تسمية ابتدعها الكتَّاب العرب، ذلك لأنه من المعروف أن شيئاً لن يبيد ما دام قد ترك من الآثار ما يدل عليه، وهي دون شك مصدرنا الأساسي للتعرف على الحضارات السابقة، وربما كان المقصود بلفظة “بائد” عدم وجود أحد من العرب ينتسب إلى هذه القبيلة أو تلك عند كتابة المؤرخين الإسلاميين لتاريخ ما بعد ظهور الإسلام ، ومن ثَمَّ فليس صحيحاً ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن ما يسمى بالعرب البائدة، ليس من التاريخ الحقيقي في شيء، وإنما هو جزء من الميثولوجيا العربية أو التاريخ الأسطوري، الذي يسبق عادة التاريخ الحقيقي لكل أمة، ومن ثم فإنهم إذا ما عالجوا تاريخ بعض القبائل العربية التي تسمى “بالبائدة” فإنما يعالجونه على هذا الأساس، وإن كانت غالبية المؤرخين الأوربيين الآن قد عدلت عن هذا الاتجاه، بعد أن ثبت لهم أن بعضاً من هذه القبائل البائدة، قد تحدث عنها المؤرخون القدامى من الإغريق والرومان، وبعد أن أثبتت الأحافير إلى حد ما صحة بعض ما ورد عن هذه القبائل البائدة في المصادر العربية.
أما العرب الباقية، فلعنا نعني بهم تلك الجماعات التي كانت – ولا تزال- تعيش في هذه المنطقة، وسوف تظل تعيش بمشيئة الله، إلى أن يغير الله الأرض غير الأرض، وأن حضارتها مستمرة يتوارثها جيل بعد جيل، وأن كل جيل يضيف إليها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..
وتقول الدكتورة سليمة برطولي في رسالتها للدكتوراه التي كانت بعنوان (جهود علماء العربية في الحفاظ على السلامة اللغوية) : وقد كانت العربية قبل الإسلام لغة جيل من الناس كبير القاعدة متسع الأرض يعيش في داخل جزيرة العرب وخارجها ، فأما الجيل الذي يعيش في داخل الجزيرة فهو العربي الذي امتد في عروق الزمن مدة لا نعلم متى بدأها ، ولكننا نعلم أنه موجـود فيها قبل التاريخ بآلاف السنين ، فالموجات التي خرجت من جزيـرة العـرب إلـى أرض الرافدين وأرض كنعان وامتد تأثيرها إلى إفريقيا في سـكان شـمال إفريقيـا ووسطها كمصر وليبيا والحبشة والمغرب وتونس والجزائر ، كانت قد خرجت مـن أرض اليمن وما جاورها في حدود أربعة ألاف سنة قبل المـيلاد ، وسـكنت أرض العراق وكونت حضارة بابل وآشور كانت تتكلم العربية كما يدل على ذلك النقوش الكتابية التي اكتشفت ، وكذلك الحال في مساكن الكنعانيين فـي الـشام و فلـسطين ولبنان و الأردن ، فقد كان الكنعانيون عرباً خرجوا حوالي سنة ثلاثة ألاف قبل الميلاد وسكنوا أرض كنعان وتميزت لغتهم بعروبيتها فلم تكن إلا عربية ذات لهجات تطبع كل واحدة منها بطابع الموقع و البيئة و الظروف الخاصة بالـسكان و التقوقـع أو الاختلاط.
وقد عاشت العربية في شمالي الجزيرة ( نجد و الحجـاز وتهامـة ( واستطاعت في القرن السادس الميلادي أن تبسط نفوذها في الجزيرة العربية كلهـا ، وتـدخل اليمن مرة أخرى وتسيطر عليها وتمحو ما بقي فيها من لهجات وتحل محلها ، وهذا لأن أهلها العدنانيين استطاعوا أن يسيطروا على جنوبي الجزيرة بعـد أن ضـعفت نتيجة الغزوات المتتالية من الفرس والأحباش ، وتبعهم الزحف اللغـوي فتوحـدت حينئذ لهجات الشمال و الجنوب في لغة عامة واحدة قبـل الإسـلام بحـوالي مائـة وخمسين عاماً تقريباً .
إن هذا الامتداد في تاريخ عريق ومكان واسع من الأرض لقبائل العرب الذين يحملون لغة الجزيرة العربية معهم ليدل على أن اللغة العربية قد كـان لهـا هـذه السطوة الكبيرة والانتشارالواسع فـي الأصـقاع إلـى جانـب اللغـات المحليـة والإقليمية، وربما كان لأهلها هناك تأثير كبير في الشعوب المحتكة بهم وليس ذلـك بغريب إذا ما علمنا أن رسول االله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية – الذي كان في أواخر السنة السادسة للهجرة النبوية الشريفة – قد راسـل ملوك وحكام فارس والروم ومصر والحبشة والبحرين والشام وغيرهم يدعوهم إلى الإسلام ، وقد كتـب صلى الله عليه وسلم إلـيهم بالعربية ، ولم يكتب لهم بلغاتهم.