من نافذته المفتوحة دائما، يطل علي كل صباح ..
هذا الصغير الرائع بابتسامته المشرقة،
يلوح بيده الصغيرة، فأرد عليه تحيته الرقيقة، فيزداد إشراقا و فرحة، ثم يغيب داخل غرفته ،و يوما بعد يوم، أصبح قريبا إلى قلبي .
ومن الجيران عرفتُ انه يعيش مع زوجة أبيه، التي تقسو علية أحيانا،
و ذات مساء، سمعت أصوات زحام، حول الفيلا المجاورة لنا، والتي يقيم فيها هذا الملاك الصغير، وكان الوقت متأخراً، والبرد قارصاً، فاستطلعت الأمر، فوقع علي الخبر كالصاعقة. أخبروني بأن الصغير قد رحل، متجمداً من البرد في الحديقة .
استحضرت صورته المشرقة، ووجه الذي جمع الابتسامة مع لمحه حزن في عينيه، فازداد انفعالي شيئاً فشيئا، و أنا أردد دعاء الصامتين، وهذا ما ينتابنا أحيانا، فنشعر بأننا نصرخ.. نتوعد.. من شدة القهر و الكمد، و قلة الحيلة، ثم تمطرنا صفعات اليأس، فيتحول كل هذا إلى دعاء الصامتين، فدعاء الصامتين استنكار مُكبل على أصحاب القلوب القاسية، التي لا تتخلى عن ثوب الأنانية، والتي ترفع شعار” الدفء لي وحدي و البرد للجميع و أنا و من بعدي الطوفان”
أفقتُ من شرودي، و ارتديت ملابس ثقيلة، من شدة البرد، و قادتني خطواتي إلى بوابة الفيلا، حيث الزحام، لأتبين تفاصيل ما حدث .
كانت الخادمة وسط الزحام ساخطة متبرمة ، أخبرتني في ذهول، بأن الصغير كان مريض بسعال شديد، و تتضاعف مرضه بإهمال زوجة أبيه، و انشغال والده المتواصل، و في هذا الصباح استيقظ الصغير مبكراً، يلعب ببعض اللعب، التي أحضرتها له خالتهُ، فاستيقظت زوجة أبيه، على صوت لعبتهِ، فزجرته، ثم حطمت لعبته، فارتمى على الأرض، في قهر يتلمسها، وألجمه الخوف من أن ينطق بكلمة. ولم يخرجه من هذا القهر إلا مرور قطتهُ الصغيرة، و هي تتمسح في قدميه، وتواسيه، فمسح بدوره على رأسها، و لمعت عيناه و كأنه يتذكر أمه، التي كانت تشاركه لعبه، و تقبله وتعانقه، فتمنى لو كانت زوجة أبيه تقوم بنفس الدور، و لكنها انشغلت بوضع الأقنعة ومساحيق التجميل على وجهها، لتزداد جمالا خارجياً، وهي لا تدري كم هي قبيحة من الداخل.
وتابعت الخادمة حديثها بأنه في المساء، كانت السيدة تستعد لوليمة كبيرة للأهل و الأصدقاء، و بعد أن تجردت من مشاعرها الإنسانية، سحبت الطفل من يده و عيناه تتطلع للمائدة الكبيرة، الممتلئة بأشهى المأكولات، و لكنه أبى أن يطلب شيئا من شده الخوف، و استسلم مغلوباً على أمره، إلى أن قذفت به السيدة إلى الحديقة، متذرعة بأنه سيقلق الضيوف،
ثم حملت إليه إناء، به بعض الفتات البارد، فتسللت قطته الصغيرة خلفه، فأخذ يملس بيده الصغيرة على رأسها، يلتمس شيئا من الدفء، فشعرت قطتهُ ببرودة يده، فغابت لحظات، ثم عادت تحمل بين أسنانها، قطعة من السمك، وضعتها أمامه، و أخذت تتطلع له في حنان، فعافت نفسه أن يأكل طعامها، وأخذ يسعل والبرد يفترسه، إلى أن تجمد، وطاحت رأسه للخلف، وكأن الملائكة تحمل روحه الطاهرة، بعد أن عافاه الله من ظلم البشر، وتقبل منه دعاء الصامتين. و حين انتهى الجميع من التهام الوليمة، اكتشف والده أن غرفته خالية، فخرج مهرولاً نحو الحديقة، ليكتشف رحيل الصغير، تاركاً خلفه لعنات على من قست قلوبهم و تحجرت . أبكتني هذه الأحداث، التي مرت علينا ككابوس، وقلت في نفسي، لو كنت مكان هذه المرأة، التي أعياني تفكيري أن أجد لها وصفا لائقا بين البشر، لاحتضنت ذاك الصغير، كلما وقعت عليه عيني، و لقبلته، ولاخترت له أجمل الثياب، وأطعمته بيدي كل ما يحب، ولأجلسته على قمة مائدة ضيوفي، ليداعبوه، فيشعر بالدفء، و لأصبحت صحته هي شغلي الشاغل.
و بدأ انفعالي يزداد من الداخل، و الصمت يسترني..
صمت المقهورين..
فوجدتني أستحضرها وأقول لها و لكل من أحتل مثل مكانها :
يا أختاه ُ ما كان سينقص من شأنك أن تصوني الأمانة، و تستمتعي بنعمة العطاء؟
فما كان لهذا الصغير الصامت أن ينقص من وليمتك شيئا..
على العكس، كان سيزيد من قدرك و ميزانك، و كان سيضفي على الحاضرين كثيرا من المرح، و كان سيستشعر بالدفء من مداعبة الآخرين له ..
فرسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم قال ” إنه من لا يرحم لا يُرحم” ، وبينما ينتابني هذا الشعور بالقهر، شعرتُ أن المكان يزداد ازدحاماً بالقادمين، ومن تلاحم الناس، بدأ الدفء يشع في المكان الذي خُيم عليه الصمت، إلا من أنين الأب المكلوم، الذي كان يردد بصوت يشق الصمت ” سامحني يا بني”
فإذا بشاب يشع النور من وجهه، يتقدم من الأب، و يخلع سترته، و يلقى بها على الصغير، و يحمله، ثم اخذ يمرر يده على جسده، و يضغط على كفه الصغير ليشع الدفء في جسده البارد، ثم أخذ يتمتم ببعض الآيات القرآنية، و تعالى دعاء الصامتين، و بينما نحن على هذا الحال، وصلت سيارة الإسعاف، و أسرع الطبيب يشق طريقه في خطى سريعة بين المتزاحمين، ثم وضع سماعته على صدر الصغير، ليعلن بأن الصغير مازال على قيد الحياة، ويسرع بنقله في سيارته المجهزة، وينطلق وسط زغاريد الحضور، و بكائهم، و تهليلهم وتكبيرهم و… و دعاء الصامتين