إدارة الخلاف الفقهي هو أس ما تقوم عليه الأمم في مسيرتها من تحضر أو تخلف ،من قوة أو ضعف،من تآذر أو تنافر وتقاتل ،من نصر أو هزيمة .فإذا أراد آحاد الناس أو فريق بحثي أن يتوقع مستقبل أمة ما مهما كان شأنها من رقي أو انحدار فلينظر إليها وهي تناقش قضاياها وتدير خلافها حول هذه القضايا، فإذا كانت الأمة ترى أن الصواب قد يتعدد، وأن الصوب هو هدف المختلفين بصرف النظر عمن يقدم هذا الصواب، وأن كل الرؤي تستحق التقدير ما دامت تقوم على علم وينطلق أصحابها من منهج قويم إلى مقصد نبيل .إذا كان كل هذا فإننا بصدد أمة ناهضة تتجه إلى مكانها في مقدمة الأمم حتى ولو شابت مسيرتها بعض الشوائب .
في كتابه “نحو فهم منهجي لإدارة الخلاف الفقهي ” يتتبع فضيلة الدكتور شوقي علام مفتي مصر هذه القضية ليضع أيدينا على منهجية علمية تخرجنا من حالة العراك المحتدمة حول قضايا فقهية لا تحتاج كل هذا الصخب حيث يرى أن الأزمة التي نعاني منها أزمة فكرية في المقام الأول .لأن الفكر هو الذي يقود إلى العمل وكلما كان الفكر صحيحًا صح العمل وأثمر ،فإذا قام الفكر على عشوائية منهجية اختل العمل
والكتاب جاء في ثلاث مباحث هي : حقيقة الخلاف الفقهي وأقسامه وطبيعته ،وإدارة الخلاف ، وقواعد إدارة الخلاف.
يقسم المؤلف الخلاف الفقهي إلى : سائغ “مقبول” وغير سائغ
أما الخلاف السائغ فهو ما وقع بين العلماء في المسائل التي لم يرد فيها نص قاطع في ثبوته ودلالته ولم يقطع فيها بإجماع ،وهي عبارة عن قضايا إما ورد فيها نص ظني في دلالته” أي يحتمل أكثر من معنى “أو ظني في ثبوته ” أي أنه أثر نبوي لم يقطع بصحته” أو قضايا سكت عنها المشرع أي لم ترد فيها نصوص من قرآن كريم أو سنة مطهرة ، أو قضايا مستحدثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الخلاف غير السائغ أي غير المقبول فهو في المسائل التي ورد فيها نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة أو التي وقع فيها إجماع قطعي أو التي علم الناس علما يقينيا أنها من دين الله” المعلوم من الدين بالضرورة” وينقسم أصحاب هذا الخلاف إلى قسمين الأول خالف “اجتهد “صاحبه قبل ان يعلم بالدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة، فهؤلاء يعودون عن خلافهم بمجرد علمهم بالدليل, بل أن العلماء حذروا تلاميذهم من الاستمرار في حالة الخلاف بعد علمهم بالدليل فقالوا إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب ” يقصد رأيه في المسألة “عُمِل بالحديث أي يدعو العالم الآخرين ممن يتبعون رأيه إلى ترك رأيه هو إذا وجدوا نصًا نبويًا صحيحًا خلاف رأيه.
أما الفريق الثاني من أصحاب الخلاف غير المقبول فهم الذين خالفوا رغم علمهم بنص صحيح يخالف ما يقولون به فهؤلاء ذكر فضيلة المفتي فيهم ما رواه الإمام البخاري عن السيدة عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله قاحذرهم.” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.يقول فضيلة المفتي هؤلاء من أصحاب الأهواء وإدارة الخلاف مع هؤلاء يكون بالنصح لهم وإرشادهم والرفق بهم وبذل المجهود في تحقيق ذلك فإن أبوا فيكون التحذير من أكاذيبهم والرد عليها واتخاذ الإجراءات القانونية لحماية المجتمع منهم.
وينتهي المؤلف في كتابة إلى استعراض الآلية التي يكون بها توقف الخلاف والالتزام برأي واحد وذلك في الخلاف المقبول الذي يحتمل الصواب المتعدد. هذه الآلية تتمثل في أمرين أحدهما حكم الحاكم والحاكم هنا هو المسئول المتخصص المنوط به الاختيار أي إذا اختارت الدولة اجتهادًا معينًا تتبعه من ضمن اجتهادات عدة واتخذته قانونا مثل الزواج على مذهب الإمام أبي حنيفة كما في مصر وغيرها من الدول فإن الناس تلتزم به . يقول المفتي إذا حكم القاضي في مسألة فإن الخلاف ينتهي ويرجع المخالف من المجتهدين عما يراه صوابًا ويلتزم بما يراه القاضي
والثاني : تصرف الحاكم يرفع الخلاف والحاكم هنا أيضا هو الهيئات المختصة في الدول بالتفاضل بين الآراء الصحيحة المعتبرة حسب مايمليه الواقع والظروف فيختارون من الأقوال ما يناسب المصلحة ويحقق متطلباتها حرصا على وحدة الصف .
والكتاب على أهميته الكبيرة جاء في لغة فقهية قد يصعب على القاريء العادي فهمها بيسر كما جاء مركزًا تركيزًا شديدًا لو تم بسطه بمزيد من الشرح والايضاح لما توقف نفعه على المتخصصين فقط الذين قصدهم فضيلة المفتي بكتابه بحسب تصوري.