كعادتى عندما أبحث عن صنايعى لتصليح أى شىء فى الشقة أقوم بعمل تحريات واسعة، وأستطلع آراء جميع الأهل والأصدقاء والجيران، أحاول قدر الإمكان أن أصل إلى صنايعى «عنده ضمير».
زمان كنت أبحث عن صنايعى لا يبالغ فى أتعابه إضافة إلى مهارته وإتقانه لعمله. مع الوقت أيقنت أنه تقريبا لا يوجد صنايعى رخيص الأتعاب.قلت لنفسي:لا يهم، فليأخذ ما يريد بشرط أن يتقن ما يقوم به ولا يترك وراءه ذيولاً تحتاج لتدخل صنايعى آخر ليصلح ما أفسده.
هنا ستكون التكلفة مضاعفة لكن لو رضخت ورضيت بالصنايعى المغلوانى الشاطر ربما ستكون التكلفة أقل حيث لن يحتاج عمله إلى تدخل من صنايعى آخر.
منذ أيام احتجت لسباك لتصليح بعض ما أفسده الدهر من حنفيات ومواسير لا تكف عن التنقيط ليل نهار.سألت فقال لى صديق أثق فيه جدا:عليك بفلان الفلانى -صنايعى شاطر وإيده تتلف فى حرير وكمان متعلم تعليم عالى، ولكن مغلوانى شوية.
قلت:فليكن- من فضلك أعطنى رقمه.وبعد لحظات كنت أتصل بالسباك الموعود فلم يرد من المرة الأولى ولا الثانية ثم الحمدلله رد فى الثالثة حيث قال قبل أن اقدم نفسى له: لما ما ردش على حضرتك مرة واتنين يبقى أكيد مش مشغول ومش عارف أرد، وأنا رديت بس عشان أفهمك غلطك ومن فضلك عاود الاتصال بى بعد نصف ساعة.
شعرت بالخجل من نفسى لإلحاحى فى طلب الرجل.وانتظرت نصف ساعة ثم طلبته حسب الموعد وبدأت كلامى بالاعتذار لأنى طلبته أكثر من مرة وهو مشغول ربما فى يده حنفية بتنقط أو ماسورة مكسورة فقال: أبدا حضرتك طلبتنى فى وقت البريك اللى باخصصه للقراءة وبانقطع فيه عن عالم السباكة والحياة كلها!.
فحييته على حبه للقراءة وعرضت عليه مشكلتى وحدد لى موعدا بعد ثلاثة أيام.حاولت عبثا أن أجعله يقدم الموعد ولو قليلا لكنه اعتذر وحرص على إنهاء المكالمة بسرعة ليس فقط لأنه مرتبط حاليا بالعمل فى ثلاث شقق ولكن أيضا لأنى أخذت من وقت القراءة أكثر من خمس دقائق! فى الموعد المحدد جاء السباك كالربيع الطلق يختال ضاحكا.
يرتدى نظارة سوداء ويلبس أغلى الملابس ويمسك فى يده بشمطة سمسونايت فخيمة. سألنى ممَّ أشتكى فأخذته فى جولة فى المطبخ والحمام ثم أخرج من الحقيبة ورقة وقلم باركر وكتب بعض الطلبات وسألنى إن كنت أحب أن اشتريها بنفسى أم يجلبها هو معه وهو قادم بعد يومين لبدء العمل.صدمتنى الكلمة لكنه أبدى اندهاشه من اعتقادى أنه سوف يبدأ العمل فورا دون معاينة وشراء المستلزمات.
وفى موعد بدء العمل جاء وبدأ تصليح الحنفيات واستبدال بعض المواسير وجلب الحنفيات. «اللى قدامك خريج فلسفة لكنى رفضت العمل بالتدريس وقررت تطبيق ما تعلمته من الفلسفة فى مجال السباكة التى أحبها منذ صغرى» وأومن تماما بنظرية فلسفية تقول:لا تحرك ساكنا لتبلى به! هكذا فاجأنى الرجل الفيلسوف الذي راح يشرح لى نظريات سقراط وأرسطو وديكانط وغيرهم من الفلاسفة.ثم قال هل تعرف أن لأدوات السباكة عقل باطل مثل بنى آدم؟ فقلت مصححا:تقصد عقل باطن طبعا.
فقال متأففا:لا طبعا انا عارف باقول غيه يا أستاذ.
هناك فارق كبير بين العقل الباطن والعقل الباطل.الباطن ما تفكر فيه بينك وبين نفسك لكن الباطل يعنى أنك قد توصلت لبطلان بعض أفكارك ومع ذلك ما زلت تتمسك بها.وكذلك الحنفيات والمواسير عند حضرتك بطلت موضتها من زمان ومع ذلك أنت متخيل أنها ممكن تشتغل تانى.
قلت له:أثق فى مهارتك لتمنحها عمرا جديدا فأنت تعرف كم يكلف شراء الجديد.رق قلبه وفعلها وقبل أن يغادر أشرت إلى محبس مهجور يحتاج لتصليح فنصحنى بألا نفعل مادام لا ضرر منه لكنى صممت على رأيى مؤكدا أن وجوده اليوم فرصة قد لا تتكرر قريبا بسهولة.
وبمجرد أن لمس المحبس انفجر المياه من كل مكان لتفسد كل ما قام به من تصليحات.
فقام بسرعة حتى لا تبتل هدومه وجمع عدته وطلب أتعابه على داير مليم وهمّ مغادرا عندما سألته كيف سيترك الدنيا هكذا ويرحل فقال: قلت لك لا تحرك ساكنا لتبلى به لكنك لم تسمع كلامى.اتفضل بقى شوفلك سباك عادى يصلحلك المحبس!