عندما كتبت الأسبوع الماضى فى هذه الزاوية عن المعركة المفتعلة ضد اللاعب المغربى زكريا أبو خلال، واتهامه بالتطرف والسلفية والداعشية لمجرد أنه كان يؤم زملاءه فى الصلاة ويرفع سبابته لأعلى ويسجد بعد الفوز، قلت إن هذه المعركة صورة طبق الأصل من معارك التشهير والتحريض التى يشعلها العلمانيون والحداثيون والتنويريون المزيفون عندنا ضد كل مظهر أو رمز دينى، وكان فى ذهنى آنذاك عشرات المعارك التى أثيرت خلال الشهور القليلة الماضية بشأن الأذان وحصة الدين والميراث والحجاب، والصيدلى الذى يقرأ القرآن، والمدرسة التى يصلى طلابها جماعة، وما شابه ذلك، ولم يخيب هؤلاء المزيفون ظنى فيهم، إذ سرعان ما افتعلوا معركة جديدة ضد الشيخ الشعراوى رحمه الله، دون وازع من عقل أو ضمير، ليؤكدوا صدق ماذهبت إليه.
لقد اختاروا هذه المرة رمزا إسلاميا كبيرا، لم تجمع الأمة على رجل مثلما أجمعت عليه، العالم الجليل الذى التقى عنده الصوفي والسلفي، والأشعري والمعتزلي، والأزهرى والأفندى، والمتعلم والجاهل، والغني والفقير، فكان بحق إمام الدعاة وأيقونة الزمان، ولذلك وقف آلاف الناس يرفضون الإساءة إليه، وأصدر الأزهر الشريف بيانا يدافع عنه، ويحفظ له هيبته ومكانته.
ومن العجيب أن يتقدم للتشهير بالشيخ ناقد فنى لا مصداقية له، يصم الشيخ الجليل بالتخلف والرجعية والتزمت، ثم يتبعه أقزام لا يستحون، معروفون للناس بأسمائهم، يتهمون الشيخ بالتطرف والتعصب والعنصرية والداعشية، ويقولون إن ثقافته قروية شعبية شفاهية، تعبر عن الطبقة الوسطى الريفية، مع أن هؤلاء أنفسهم جاءوا من أصقاع الريف، وظلوا يتقافزون على الأكتاف حتى انتقلوا إلى القصور والفيلات، ومع ذلك لا يقنعون ولا يعتبرون، فمن قال عن الصحابة الكرام أنهم قتلة داعشيون، يقول عن الشيخ الشعراوى ذلك وأكثر.
لكن المؤكد أنهم مهما رددوا من افتراءات وأكاذيب، فلن ينالوا من الشيخ الجليل شيئا، لقد حفر اسمه فى سجل الدين واحدا من أعظم الدعاة والمفسرين لكتاب الله خلال القرون الثلاثة الأخيرة، كما نقش اسمه على جدار الوطن واحدا من أعظم قادته ومثقفيه، الذين نشروا التنوير الحق بين الناس، وانتشلوهم من حمأة التغريب، وأعادوهم إلى هويتهم الدينية والوطنية، فأحيا الله به الدين فى قلوب كانت قد ذابت فى ضلالات الشيوعية والماركسية.
ليس معنى هذا أن الشيخ كان قديسا معصوما، أو ادعى لنفسه مكانة غير المكانة التى عرفه الناس عليها، مكانة العالم الزاهد المتواضع، الذى يصيب ويخطئ، ويغضب ويصفو، ويذنب ويتوب، فلا قداسة ولا عصمة إلا لنبي، لكنه فى كل الأحوال لم يحد عن الحق، ولم يخن علمه ورسالته، وتمسك بما آمن به، حتى لو أغضب البعض منه، لذلك أحبته قلوب المصريين، ووثقت فيه وفى علمه، وهذه القلوب المحبة هى التى أعلت قدره، وحققت له الحضور الطاغى الذى استمر لحوالى ربع قرن بعد وفاته، وسوف يستمر إلى ماشاء الله، وهذا ما يغيظ خصوم الدين، الذين يؤلمهم أن يكون لعالم مسلم كل هذا التأثير الشعبى، بينما يموت كبيرهم فينقطع عمله، ويدفن صخبه معه.
والحقيقة التى ندركها جميعا أن الشرذمة الشاردة لا تهاجم الشيخ الشعراوى لشخصه، وإنما هى تنتقم منه حين تجد الفرصة سانحة، بسبب الحالة الدينية العامة التى أحدثها فى المجتمع، وما زالت متوهجة إلى الآن، رغم أن الشيخ لم يكن ينتمى إلى جماعة تدعمه، أو حزب أو تيار، بل كان أمة وحده، وظاهرة متفردة، جذبت جميع فئات الشعب، وأقلقت جماعات وأحزابا وتيارات كانت تسعى إلى استقطابه، لكنه استعصى على كل ألوان الاستقطاب والتحزب.
وظل الشيخ الشعراوى علامة مصرية بارزة، أينما حط بترحاله كان مصريا خالصا، يعتز بمصريته كما يعتز بدينه، ويدعو لمصر التى نصرت الإسلام ونشرت علومه، فكبر بذلك مقامه عند المصريين جميعا، مسلمين وغير مسلمين، ولم يكرهه إلا قلة حاقدة، جبلت على أن تجحد كل ماله علاقة بالدين، وتنحاز للتهتك والعرى والانحلال والقيم الفاسدة.
وقد درج هؤلاء على افتعال المعارك وإشعال الفتن بين آن وآخر، لإلهاء الناس عن مصالحهم وطموحاتهم، وشغل الوطن عن قضاياه الحقيقية، وفى كل مرة نجد أنفسنا فى حيرة من أمرنا؛ هل نرد عليهم ونكشف زيفهم وأكاذيبهم، أم نتركهم فى ضلالهم يعمهون، ولا يخفى أن كثيرا من العقلاء ينحازون إلى الخيار الأخير، لكن المشكلة دائما أن هناك أجيالا ربما لا تعرف الحقائق، وليس لديها من الوقت والجهد ماتنفقه لتحصل على هذه الحقائق جلية من مصادرها، وتتسلح بها فى وجه موجات الأكاذيب التى تهب عليها كل ليلة عبر قنوات فضائية تخصصت فى التشهير بالكبار، والتحريض عليهم، ثم فى النهاية غالبا لا نجد مفرا من أن نرد عليهم ونتصدى لهم، ونكشف أباطيلهم.
هؤلاء ليسوا تنويريين ولا أصحاب رسالة، وإنما هم أدعياء انتهازيون، يؤدون مهمة لصالح جهات لا تريد لنا الأمن والاستقرار، ولا تريد لهذه الأمة أن تظل محتفظة بشموخ علمائها، بل تسعى جاهدة لتحطيم الرؤوس وتشويه الرموز، وتفريغ الوطن من طاقته الفاعلة.
إن التنوير الزائف لن يبنى وطنا، ولن يحقق نهضة لأمة، ولن يكون حلا لمشاكلنا، بل إنه يشدنا دائما إلى الوراء، ويفرض علينا معارك لامعنى لها، لذلك نحن فى أمس الحاجة إلى تنوير حقيقى، يبنى ولا يهدم، ويحافظ على أعمدة الوطن وقواه الفاعلة، ويعلى من شأن علماء الأمة وكبرائها.