لم يكن في الحسبان أن أسافر بالقطار العادي، فحين وقفتُ أمام شباك التذاكر في بهو محطة مصر العريقة، لأحجز لي مَقعداً في أول قطار يغادر إلىٰ مدينة المنصورة، فاجأني الموظف بأنّ جميع القطارات المكيّفة كاملة العدد ولن تتحرك قبل ساعات، ويبدو أنه قرأ في وجهي علامات الحيرة والاستعجال، فأشار عليّ باللحوق فورا بالقطار العادي الـ "إكسبريس" الواقف علىٰ رصيف رقم 20 والذي سيتحرك الآن في اتجاه المنصورة.
كانت نبرته الحاسمة توحي بأنه موكلٌ بتسيير أموري، فقد حسم تردّدي في أقل من طرفة عين وكأنه يُسدي إليَّ خدمة واجبةً كما لو كنتُ في حاجة إلىٰ هٰذا الحزم، فالوقت ضيّق والساعة الآن السابعة والنصف تماما من مساء الثلاثاء، ويكفي أنني تخلفت عن الجلسة الافتتاحية، فضلا عن الجلسات الأخرى لأول أيام المؤتمر، ولابد مما ليس منه بدّ، فوجدتني أهرول دون تفكيرٍ إلىٰ الرصيف رقم 20 مُسترجعاً قول أبي العلاء :
( الناس للناسِ مِن بدوٍ وحاضرةٍ/ بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ)
وما كدت أصعد إلىٰ القطار حتىٰ تحرك بي - وكأنه كان ينتظرني - ثم علا نفيره المُحبّبُ إلىٰ نفسي منذ أيام الطفولة، بكل ما يحمله هذا النفير من معاني الشجن وتباريح اللقاء والفراق، والتطلع الدائم إلى كل ما هو غائب وبعيد.
□ داخل القطار :
ها أنذا أخيرا في قطار الإكسبريس ، لا مكانَ للجلوس، وثَمّةَ هواءٌ لطيفٌ منعش يدخل من شبابيكه المُفتّحة – مداعباً وجهي – كنسمات الليل الباردة في أواخر الخريف، لكنه أشدُّ نقاءً مما تعودناه في أجواء القاهرة في ليالي الربيع، وتناهىٰ إلىٰ سمعي صوتُ المسافرين في أحاديثَ شتىٰ يغطي عليها إيقاع العجلات الهادرة وهي تلتهم القضبان الحديدية في شهية عارمة وسرعة فائقة تضيق ببحور الخليل بن أحمد وموسيقاه الشهيرة، فأشرقت الذاكرةُ بما كنتُ نسيتُه من شعر أمل دنقل:(أسافرُ في القاطرات العتيقةِ/ كي أتحدثَ للغرباء المُسنّينَ/ أرفع صوتي ليطغىٰ علىٰ ضجة العجلات)
سألت أحد الجالسين – الذين أقف قبالتهم – عن المحطة التالية التي سيقف في رحابها القطار فسألني بدوره عن وجهتي فأجبته: (المنصورة)، فقال: “لسه بدري” ثم استأنف: أما المحطة القادمة فهي محطة (بنها).
□ مدينة الخالدين :
بنها ، عاصمة القليوبية، التي أنجبت حفني ناصف صاحب الكتاب الشهير “القطار السريع في علم البديع” ! وابنته ملك “باحثة البادية”، وحسين المرصفي من علماء الرعيل الأول بدارالعلوم، تتلمذ علىٰ يديه محمود باشا سامي البارودي وأحمد شوقي، هٰذه الأسماء الخالدة التي تسكن في خاطري منذ مطلع الشباب الأول، وما كدت أنبش الذاكرة عن أسماء أخرىٰ أنبتَتْها هٰذه الأرض الخصيبة، حتىٰ نهض إليَّ شاب ليُجلِسني في مكانه، وحين شكرته رافضا إخلاءَ مَقعده لي ، أخبرني بأنه سينزل بالمحطة التالية (بنها).
جلستُ في مكانه إلىٰ جوار النافذة المفتوحة علىٰ الحقول – وقد غمرها بعضُ الظلام – وهي تجري عكس اتجاه القطار الذي راح يفترس الأرض افتراسا، ويطوي بي أربعين سنةً إلىٰ الوراء ، حين كنتُ عائداً من القاهرة في قطار الصعيد إلىٰ بلدي (سوهاج) خِلْواً من الحب والأمنيات:
” تستدير المدينةُ شيئاً فشيئاً أمامي،
يصيح القطارُ وينزعني،
تتباعد عني الشوارعُ،
ترجعُ للخلف تلك الميادينُ،
تلك النوادي التي جَمعَتْ بيننا،
تتراجعُ،
تُسرعُ في الجري حتىٰ تغيبَ،
وينفردُ الريفُ بي”.
□ السعادة المنشودة :
غادر القطار محطة (بنها) وخفّ الزحام عن عرباته ، فالتفتُّ حولي، أتأمل وجوه المسافرين ، هؤلاء هم أحفاد علي باشا مبارك، وناجي، وعلي محمود طه، وأحمد حسن الزيات، هؤلاء هم حفدة أم كلثوم، والسنباطي، ومحمود مختار، أحاديثهم متنوعة لكنها بسيطة، وجوههم هادئة مطمئنة لا يعكر صفوَها قلقُ الإبداع أو توتّرُ القصيدة، يداعبهم هواءٌ طلق نقيّ، لا نجد إليه سبيلاً في القطارات المكيّفة أو في قطارات الـ (V I P) وهوائها الصناعي، ركنوا إلىٰ واقعهم المعاش، فغشيتهم السكينة والقناعة، وامتلكوا حرية أن يعيشوا ويموتوا بسلام، هي حالة من الرضا لو علم الظالمون أنها تجلب لهم السعادة لجالدوهم عليها وفرضوا الضرائب والإتاوات ! لكن القطار كان يجري بهم قُدماً إلىٰ الأمام، فيما كانت الحقول تتراجعُ علىٰ جانبيه عائدةًً بي إلىٰ صيف عام ١٩٧٦م :
” المحطات ترجعُ للخلفِ،
وجهكِ يرجع للخلفِ،
يُسلمني للضياعِ،
أحدّقُ في واجهاتِ البيوت البعيدةِ،
في قاطنيها،
الذين يعيشون عمرهمو في السكينةِ،
يحيَونَ يومهمو بالكفافِ،
تحرّقْتُ في أن أكون نزيلا عليهم،
وأنتِ معي، نحتسي شايهم،
ونشاركهم يومهم، ونعود”.
ما كان أسعدني لو كنت مثلهم لا تشغلني مؤتمراتٌ أو ملتقياتٌ أو صراعاتٌ فكرية وسياسية لا طائل من ورائها، لأعود مثلهم في آخرة اليوم إلىٰ أطفالي وأحفادي محملاً بالهدايا البسيطة التي يبيعها الجائلون في قطار آخر المساء، ثم أنام مستمتعاً معهم بجمال اللحظة دون اهتمام بالغد الآتي.
□ متعة التلذذ بالذكريات:
القطار يجري ونفيره يتواتر، وهواؤه البارد المنعش يوقظ الروح من سباتها، فينشَطُ القلبُ من عقاله، وتتحول ساعات السفر إلىٰ هَبَّاتٍ أثيرية يجب الإمساك بها بين هٰذه الوجوه الآمنة، التي لا يملك أصحابها شيئا غير هٰذا الأفق الوسيع الذي يرتع فيه القطار وهٰذا الهواء المجانيِّ الذي يدخل من نوافذه وأبوابه موقظاً تلك السعادة، التي يرهقنا الإبداع في السعي إليها والبحث عنها، ولا نفهم مغزاها إلا في صحبة هؤلاء المسافرين البسطاء.
كنت أتابع أسماء المحطات التي يمرّ بها القطار واحدةً تلو الأخرىٰ: (بنها، قويسنا، بِركة السبع) وأسجّلها في ورقة صغيرة سرعان ما تنبّه إليها بعضُ الجالسين فساعدني علىٰ استكمالها قائلاً: المحطة القادمة ( طنطا).
● طنطا ؟
إذن فقد مرَّ القطارُ عبر أراضي محافظتي ” القليوبية” و”المنوفية”، ثمّ هو يدخل الآن بي في حيازة محافظة “الغربية”.
طنطا ، الجمال الذي رافقني بضع سنوات، ولم يكن لي حيلة في استبقائه بضعة أيام :
” المحطاتُ مملوءةٌ بالوجوهِ،
التي تترقّبُ مَن يَصِلُونَ ولا يَصِلُونَ،
المحطاتُ ترجع للخلفِ،
تجري الإشارات للخلفِ،
وجهكِ يرجع للخلفِ، يجري،
ويجري القطارُ،
وتجري الدموع الغزارْ”.
جمعتنا الدراسةُ معاً في دارالعلوم في سبعينيات القرن الماضي، كانت تتمنىٰ أن تصبح مذيعة، كل ظروفها القدرية عملت ضد إرادتها، فلم تصبح مذيعةً كما أرادت، ولم تتزوج الشخص الذي أحبها أو أحبته، ولم تفلح في العيش في العاصمة الأم، تفرقت بنا الدرب، فعادت هي إلىٰ موطنها الأصلي (طنطا)، وبقيتُ أنا في القاهرة، وبقِيَتْ ذكراها نائمةً في القصيدة التي ابتعثها القطار من رقادها الطويل مع صياحه المدوّي علىٰ مشارف مدينتها !
من المؤكد أنها تعيش هنا ، وربما كانت تتنسّم الآن تلك الذكريات التي أتنسّمها الآن وأنا في القطار أخترق ربوع مدينتها على مسافة نفيرٍ أو نفيرين، من مسامع بيتها القريب.
ما كاد القطار يتوقف علىٰ رصيف محطتها، حتىٰ نكص على عقبيه عائداً، ورجع رجوعاً حقيقياً، لا مجازيا كما تزعم القصيدة، التي يبدو أنها كانت تستشرف الغيب علىٰ مسيرة أربعين سنةً ! ، فسألتُ عن سبب الرجوع ، فأجاب أحدهم : طنطا منقطع الطريق ، لابد للقطار من الوقوف عليها ثم الرجوع عنها سالكاً سكة أخرىٰ إلىٰ ( المحلة الكبرىٰ).
لابد من الوقوف عليها: ( قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ)
هل ورد بخاطر امريء القيس، حين وقفَتْ به الناقة بناحية (سِقْطِ اللِّوىٰ) يبكي أطلال حبيبته بين (الدَخولِ) و(حَومَلِ) أن أحدَ أحفاده – بعد مئات السنين – سيقف به قطار العصر الحديث بين (بِرْكة السبع) و(المحلة الكبرىٰ) فيبكي أطلال محبوبته علىٰ رصيف (طنطا) ؟
وانعكس إيقاع الهواء علىٰ وجهي بانعكاس القطار وتغيّر مساره، وكأنه عائد بي من حيث أتىٰ ، فوجدتني وإياها في قاعة ” إيوارت التذكارية” بميدان التحرير في ربيع ١٩٧٧م جالسَيْن معاً في جناح الاستماع المجاني للموسيقا العالمية نتابع – في صمت نفهمه – السيمفونيةَ التاسعة لبيتهوفن “أنشودة الفرح”، التي كانت تستثقلها هي قياساً علىٰ حبها للموسيقا الخفيفة التي كانت تنتظرها من الراديو في آخر كل ليلة لتنامَ علىٰ أمواجها في بيت الطالبات، لكنها كانت تحب مثلي أغاني فيروز وموسيقاها، كنتُ أحياناً أشرح لها مقامات السيمفونية في اجتهاد وافتعال يليقان بالعشاق ، ويلقيان قبولاً وإيناساً وضحكاً في ملامحها الجميلة المواتية فأتمادىٰ في الاجتهاد والافتعال لأظفرَ بمزيد من القبول والضحك والإيناس !
مضتْ الملهمةُ، ومضتْ معها أحلام وطموحات، وبقِيَتْ ذكراها ماثلةً في جنبات القصيدة، كما بقيت مدينتها علامةً علىٰ الحب والشعر والموسيقا، ولم تفلح نظرة الأسف المؤلمة التي ودّعتني بها في صيف ١٩٧٧م أن تعيدني إليها مرةً أخرى !
□ درعمي في القطار :
اشتد انعكاس الهواء علىٰ وجهي ، فصار لاسعاً عنيفاً بعد أن كان بارداً لطيفا، فبادرتُ بتغيير مكاني من النافذة لأتفاداه.
جاءت جلستي الجديدة إلىٰ جوار شاب كان قد لاحظ تطلّعي إلىٰ المحطات واهتمامي بتدوين أسمائها، فتقاسمنا الحديث، وتعرفنا، الأستاذ بدوي قاسم، كانت المفاجأة أنه درعميٌّ تخرج عام ٢٠٠٩م ولم يستلم عمله إلىٰ الآن ! ، ولم يعد لديه أملٌ في اعتراف الحكومة به وبشهادته الجامعية – تعييناً له أو تعاقداً معه – تلك الشهادة التي قضى عمره يكدُّ في سبيل إحرازها.
علمتُ منه أنه تتلمذ علىٰ أستاذنا الراحل الدكتور عبدالصبور شاهين وتعلم عليه فقه اللغة واستنباط أحكامها من أدلتها الأصولية فتاقت نفسه لتقديمها للأجيال الجديدة لكن الدولة لا تجد له ولا لزملائه مكاناً.
كان ممسكاً بهاتفه الجوال مدعوماً ببرنامج التواصل الاجتماعي، فتبادلنا تسجيل اسمَيْنا على صفحاته لنكتشف مفاجأة أخرى، أن لنا صديقا مشتركا على هذه الصفحات هو الأستاذ Ahmed Ayman ، لتتسع بذلك رحابة اللغة وعلومها لأصحابها المحبين لها.
□ الوصول إلى مدينة المنصورة :
بعد نزول الصديق بدوي قاسم إلىٰ محطة ( المحلة الكبرىٰ)، عاد القطار من جديد يقتضب الأرض اقتضاباً وينساب في الأفق العريض مارّا بمحطة ( سمنود) ثم محطة ( طلخا)، ثم إذا به بعد ذلك يميل ميلاً عنيفاً وينفخ بوقَهُ المدوّي المرَّة وراء المرة دون انقطاع، ثم إذا بالأضواء المبهرة والمصابيح المتلألئة تغمر القطار من جميع نواحيه وتمتزج بهوائه البارد المنعش فتلوّنهُ بأمواجٍ بنفسجيةٍ وزرقاءَ وخضراءَ وحمراء، فتمتلئ رئتاي بنسائم قوس قُزَح الملونة، كميثاقٍ وعهدٍ من الأرض التي دحرت الصليبيين أن ستظل عاصمةً للأدب والفن والسياسة والجمال، وإذا بالمسافرين يتأهبون للنزول من القطار، فأتأهب معهم للمغادرة، وأنزل إلىٰ الرصيف قُبالةَ لافتة كبيرة مكتوب عليها ( المنصورة).
أيها الموظف القابع هناك في شباك التذاكر بمحطة سكك حديد مصر العريقة، ما أروعَكَ أيها الرجلُ وما أروعَ قطارك، ليته ظل مسافراً بي في رحلة مع الأبد لا يتوقف إلا ليعاود الانطلاق وينفخ النفير، تماماً كما كان هواي القديم مسافراً في المطلق والجمال :
(وظلّ الهوى في عروقيَ سرّاً حبيساً،
يسافر داخل جسمي قطاراً،
يمرّ أمام المحطات لا يتوقفُ ليلاً،
ولا يستريحُ نهارا). (٤)
غير أن القطار توقف تماماً، وأُسدِلَ الستار علىٰ أحلىٰ ساعات السفر .