عندما بدأ أنتونى بلينكن وزير الخارجية الأمريكى رحلته إلى الشرق الأوسط منتصف الأسبوع الماضى كانت الأنظار معلقة بالآمال التى أعلنتها إدارة الرئيس جو بايدن بشأن رغبتها فى أن تلعب دور الوسيط الإيجابى فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، وأن تعمل على تهيئة الظروف المناسبة لعودة المفاوضات بين الطرفين، خصوصا أن الأسبوعين السابقين على الرحلة شهدا اضطرابات عنيفة فى الضفة الغربية المحتلة على أثر تشكيل حكومة نتنياهو الجديدة، التى استفتحت عهدها باستباحة المسجد الأقصى واقتحام مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين.
ورغم أن الصراع الفلسطينى الإسرائيلى لم يعد يمثل أولوية بالنسبة للولايات الأمريكية منذ أكثر من عقد من الزمان، إلا أن تأكيد بايدن على رفض الاستيطان، وعدم الاعتراف بشرعية المستوطنات، وتمسكه بحل الدولتين على عكس سابقه دونالد ترامب، أضاف زخما هائلا لدى المتفائلين برحلة بلينكن، عسى أن تكون فاتحة لدور أمريكى جديد أكثر إيجابية وأكثر عدلا، يكبح جماح حكومة المتطرفين الجدد.
لكن حصاد الرحلة كان مخيبا للآمال، إذ لم تقدم جديدا، ولم تكن أكثر من سراب، ولم ينل الفلسطينيون منها أكثر من كلام ملون بلسانين مختلفين، فحين وقف الوزير الأمريكى إلى جوار نتنياهو عقب مباحثاتهما أكد أن إدارته ملتزمة بأمن وحماية إسرائيل باعتبارها الحليف الأهم فى المنطقة، وملتزمة بتقديم حزمة المعونات العسكرية والمالية التى تضمن تفوقها على كل جيرانها، وتعمل من أجل تهدئة الأوضاع حتى يتسنى مواجهة التهديد الإيرانى بكل حزم من خلال التنسيق المشترك، وتشجع على تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية.
وحينما وقف إلى جوار محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية بعد جلسة مباحثاتهما فى رام الله قال إننا نعمل على تهيئة الظروف لعودة الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طاولة المفاوضات، ونرفض أي اجراءات أحادية الجانب، وملتزمون بتطبيق حل الدولتين على المدى البعيد، مؤكدا أن إدارته لم تغير موقفها بشان توصيف الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، إذ لاتزال تعتبر هذه المناطق أراضى محتلة، ولكنها فى الوقت نفسه ستتعامل مع الحكومة الإسرائيلية بناء على سياساتها.
وهذه التصريحات الملونة تمثل هروبا واضحا من أية التزامات أمريكية تجاه حل الصراع، وتنصلا من الوعود التى قدمها بايدن، وهناك من يرى أن رحلة بلينكن فى هذا التوقيت لم تكن فى الأساس من أجل القضية الفلسطينية، وإنما استهدفت تهدئة الأوضاع فقط حتى لا يكون هناك ما يعكر الأجواء ويعطل العمل الجارى لتوجيه ضربة نوعية للمنشآت النووية الإيرانية بتنسيق أمريكى إسرائيلى، وكل ما قيل عن حل الدولتين مجرد خداع ومماطلة لتمرير الوقت، دون أى إجراء لوقف الاستيطان مثلا.
وأكبر شاهد على ذلك ماقاله بلينكن فى رام الله حين فلتت منه عبارة ” تطبيق حل الدولتين على المدى البعيد”، أى ليس الآن، فلا يتوقع أحد حلا آنيا من بايدن المشغول بأوكرانيا والصين وإيران، ولا أمل فى إمكانية حصوله على فترة رئاسية ثانية، إن لم يكن بسبب السن فلانخفاض شعبيته إلى أدنى مستوى.
وماذا يعنى القول بأن إدارة بايدن ستتعامل مع حكومة نتنياهو ” المتطرفة ” بناء على سياساتها ؟ هل يقصد سياسات إدارة بايدن الرافضة للاستيطان والمتبنية لحل الدولتين، أم سياسات حكومة نتنياهو التى تتنكر لأية حقوق فلسطينية فى الأرض والدولة، وترفض حل الدولتين، ولا ترى فى الضفة وغزة إلا أنها ضمن أرض إسرائيل التى تستردها عبر التغييرات التدريجية على الأرض، والتى ستعترف بها أمريكا والعالم كله يوما ما عندما تصبح مفروضة بحكم الأمر الواقع!!
وقبل أن تصل طائرة بلنكن إلى واشنطن فى رحلة العودة كان نتنياهو يتحدث منتشيا بأنه لا حل مع الفلسطينيين حاليا، وإنما الحل سيكون مع الدول العربية التى نجح فى إقامة علاقات معها عبر ” اتفاقيات إبراهيم “، ثم بعد ذلك يأتى الاتفاق مع الفلسطنيين، عندما يتبدد ما تبقى لديهم من أمل فى إقامة دولة مستقلة.
والآن .. هل هناك شك فى أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تختلف عن سابقتها؟! الفارق الوحيد أن ترامب كان واضحا فاجرا فى انحيازه، أما بايدن فيتخذ موقفا مخادعا، يعطى من طرف اللسان حلاوة لا أكثر، ويتخذ من إيران ” فزاعة ” لتهميش القضية الفلسطينية.