فى أبريل 2017 أصدر الصحفى والمؤرخ البريطانى المتخصص فى شئون الشرق الأوسط كريستوفر دو بلليج كتابه المهم ” التنوير الإسلامى ..الصراع بين الدين والعقل فى العصر الحديث”، وفى مطلع عام 2019 صدرت طبعتة العربية ترجمة بدر الرفاعى عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، وبشكل عام فإن الفكرة المحورية لهذا الكتاب توثق العلاقة بين الإسلام والحداثة، وترد على دعاوى انغلاق العقل المسلم وجموده، ورفضه لحركة التطور والتجديد، وفى ذلك يقول ” دو بلليج ” : إن هذه التعميمات الجاهلة والمتعسفة إنما تكشف عن الأشخاص الذين يقولونها أكثر مما تكشف عن الإسلام، ولا تصمد أمام حقائق التاريخ التى تثبت أن العرب والمسلمين عندما واجهوا مستحدثات الحضارة الأوروبية منذ أكثر من قرنين تعاملوا معها بانفتاح عقلى وتفاعل إيجابى، فأخذوا منها الكثير، وحرضوا أبناءهم على أن يتعلموا علومها ونظمها الإدارية والعسكرية والاجتماعية، واستطاعوا أن يستوعبوا هذه العلوم والنظم وتعايشوا معها دون حرج، وفى الوقت ذاته حافظوا على خصوصيتهم الدينية وأحكام شريعتهم.
ويشير المؤلف فى مقدمة كتابه إلى أن العالم الإسلامى كثيرا ما اتهم بالفشل فى التحديث والإصلاح ومواكبة العصر، وكثيرا ما قيل إن سبب ذلك يعود إلى الإسلام نفسه، الذى يفرض على عقول أتباعه حالة من الجمود والانغلاق، تحول دون تقبلهم لما هو جديد ومفيد، لأنهم مقيدون بالثبات على القديم الراسخ المسيطر، لكن واقع الحال بقول عكس هذا، فمنذ بداية القرن التاسع عشر إلى اليوم عرف المجتمع الإسلامى تحولا حقيقيا فى مسيرته الحضارية، نتيجة احتكاكه وتأثره بقيم وممارسات معاصرة، مثل تبنى الطب الحديث، وإنهاء إقصاء المرأة، والتطور الديمقراطى، وذلك في ثلاثة مراكز مهمة سياسيا وثقافيا فى الشرق الأوسط، استدعت الحضارة الغربية وتفاعلت معها واستوعبتها، هى مصر وتركيا وإيران.
ويتوقف ” دو بلليج ” أمام ما يسميه بـ ( اللقاء الأول ) للإسلام مع الحدائة قبل قرنين من الزمن، وكيف أفرز هذا اللقاء بعض النتائج الإيجابية، ويعتبر ذلك عاملا يبعث على الأمل، بأنه لا تناقض فى الأساس بين الإسلام والحداثة، ففى عام 1798 شن نابليون بونابرت حملته الشهيرة على مصر، بوابة الشرق، وهى الحملة التى تعددت أهدافها بين الجيوسياسى والاقتصادى والعلمى، وكان من نتائج هذا الاحتكاك أن تعرف المسلمون على كثير من جوانب الحضارة والعلوم وفنون الإدارة الفرنسية، وشكل هذا الحدث التاريخى الدافع الحقيقى للتنوير الإسلامى، الذى يقصد به حركة التجديد والتحديث فى العالم الإسلامى نتيجة التأثر والاحتكاك والإعجاب بما وصل إليه الغرب من تقدم فكري وعلمي وحضاري، فقد أحدثت تلك الحملة صدمة ثقافية وفكرية وحضارية أيقظت العالم الإسلامى من مرحلة طويلة من العزلة والتخلف.
ومع مطلع القرن التاسع عشر بدأ رد الفعل الإسلامى على التأثير الأوروبى يتبلور تدريجيا، ويسلط المؤلف الضوء على شخصيات إسلامية بارزة، سياسية وثقافية ودينية وعلمية وعسكرية، أقدمت لتنهل من علم الأوروبيين وحضارتهم، وتتبنى جوانب من الفكر والتكنولوجيا الغربيين، وتشجع الآخرين على ذلك، دون أن تفرط فى تدينها، وتضم قائمة هذه الشخصيات علماء دين وكتابا وأطباء وعسكريين وسلاطين، ومن أشهر هؤلاء المؤرخ المصرى عبدالرحمن الجبرتى، الذى وصف بدقة خليط الصدمة والانبهار الذى قابل به المصريون حملة نابليون بونابرت وفريق العلماء والخبراء الذين رافقوها.
ويشرح ” دو بلليج ” لقرائه أن الجبرتى نشأ نشأة دينية محافظة، وكان يؤمن بأن تفوق عقيدته سيضمن النصر للمسلمين فى الحرب على الغزاة، غير أن عقله الأمين والذكى جعله يعترف لاحقا بالقوة النارية المتفوقة والأكثر فاعلية التى كان يمتلكها الغزاة، وكذلك بالقوة الفكرية لهؤلاء الذين جاءوا لدراسة بلاده، ومن ثم فقد تبنى الدعوة إلى تعلم علومهم وفنونهم باعتبارها علوم العصر وفنونه.
ثم جاء محمد على وأبناؤه فتوسعوا فى هذا التنوير، وأرسلوا بعثات الشباب إلى باريس ليتعلموا، واستقدموا العلماء ليعلموا أبناء المصريين الذين أقدموا بشغف على مختلف ألوان العلوم، وأنشأوا المدارس الحديثة، وقاموا بحركة واسعة للترجمة كى ينقلوا العلوم والفنون الأوروبية إلى العربية، دون أن يمنعهم دينهم عن ذلك.
وفى اسطنبول رد السلطان العثمانى محمود الثانى على القوة المتنامية للدول الغربية بمحاكاتها والنسج على منوالها، فكبح جشع وزرائه وسلطة علماء الدين، ورفع القيود عن تشريح جسم الإنسان ودراسته، مما قاد الطب وعلوم الصحة إلى علاج الطاعون الذى كانت أوروبا قد تخلصت منه منذ عقود، وعمل على تطبيق أساليب النظافة والرعاية الصحية المستدامة.
وفى الحقبة ذاتها استفاد الأمير عباس ميرزا، القائد الكاريزمى فى بلاد فارس، من مساعدة الفرنسيين والبريطانيين فى تحديث جيشه الذى كان يدار وفق أساليب القرون الوسطى، كما أرسل شباب بلاده للتعلم فى بريطانيا، ومن بين هؤلاء شخص يدعى ميرزا صالح، كتب كثيرا حول أسفاره، ودون رحلاته ومشاهداته، فأصبح أول صحفي فى بلاده.
ويشير المؤلف إلى دور الأزهر كمؤسسة تعليمية دينية فى حركة التجديد والإصلاح، ويقدم نماذج لشخصيات لعبت دورا بارزا فى تحقيق التنوير الإسلامى، مثل جمال الدين الأفغانى ورفاعة الطهطاوى والشيخ حسن العطار، حيث تظهر قصصهم أن المسلمين كانوا حريصين على التعلم والتطور، ومدركين أن ذلك لايتنافى مع الدين، وإنما ينسجم معه تمام الانسجام.
ومن هذا العرض يصل ” دو بلليج ” إلى نتيجة حاسمة، فيرفض مايروجه بعض المثقفين الغربيين وينقله عنهم بعض العرب والمسلمين ـ للأسف ـ عن أن الإسلام يخنق تابعيه، إما بسبب تعاليمه الجوهرية، أو بسبب إعطاء الفقه الإسلامى ظهره للعقل فى القرن الحادى عشر، ويقول إن ” مشاكل العالم الإسلامى تسبب فيها أعداؤه الغربيون من الصليبيين والمستعمرين الأوروبيين، الذين أضروا بالوعى الجماعى للمسلمين.”
وأكمل الأسبوع القادم إن شاء الله.