منذ نحو شهرين أو يزيد، تناقشت وأخي الفاضل د. محمد هندي أستاذ النقد الأدبي الحديث في كلية الآداب بجامعة سوهاج، وكان قد كتب كلاما جميلا في صفحته على الفيسبوك، حول مؤلفات الناقد الكبير، الراحل العظيم علما وخلقا، العالم د.عبدالرحيم الكردي، وتناولنا التحولات والانتقالات في كتاباته النقدية، عبر منهجية صارمة دؤوبة، وعميقة، بداية من كتابه البديع “تطور التقنيات السردية في الرواية المصرية”، ثم مؤلفاته الأخرى: “السرد في الرواية المعاصرة..الرجل الذي فقد ظله نموذجا”، و”الراوي والنص القصصي”، و”البنية السردية للقصة القصيرة”، و”السرد ومناهج النقد الأدبي”، و”قراءة النص”، وخلصنا إلى أن باحثا في ميدان النقد الأدبي عموما، وميدان السرديات خصوصا، لم يقرأ مؤلفات الراحل الناقد الكبير الدكتور الكردي فقد فاته علم عظيم وفائدة جمة…..وكنت قد أشرت إلى تحولات في منهجه النقدي، وأن اتصال الراحل الكبير بأستاذه الراحل العظيم طه وادي، واطلاعه على المناهج النقدية الحديثة، بجانب استيعابه معطيات تراثنا النقدي العربي، قد شكل نقطة التحول الكبرى لديه، وبوسع الدارس مقاربة ذلك الأمر حينما يطالع أبحاثه الأولى، التي أنجزها بجامعة الأزهر، ذات الاتجاه المحافظ، بداية من كتابه عن أدب كامل كيلاني (الماجستير)، وكذلك كتاب “تطور التقنيات السردية في الرواية المصرية” (الدكتوراه)، فالاتكاء على معطيات المناهج النقدية الحديثة، وكذلك الأدوات الإجرائية ليست مثيلة لتلك التي وجدناها في كتابه “الرجل الذي فقد ظله”، بمقدمة الراحل طه وادي، وإشرافه، بما جعلني أشعر أن الدكتور الكردي قد أنجز رسالة أخرى للدكتوراه مباينة ومتعمقة وموسوعية في التناول التنظيري والإجرائي لرسالته عن “تطور التقنيات السردية في الرواية المصرية”، ودليلي على ذلك ما صدر للدكتور الكردي بعد ذلك من مؤلفات ركزت على الناحية التقنية، والمقارنة المنهجية، مثل كتب: الراوي والنص القصصي، والبنية السردية للقصة القصيرة، والتي جاءت مبكرة في بابها وقت صدورها.
أما كتابه “قراءة النص”، فهو – في تقديري- درة مؤلفاته، لأنه يمثل عصارة فكره النقدي، ويقدم من خلاله القراءات المتعددة للنص الأدبي في الفكر النقدي المعاصر، فهناك القراءة بواسطة القرائن، وهي القراءة اللغوية التي عمادها القرائن اللفظية، والقرائن المعنوية، وقرينة السياق كالذي أصله قبلا عبد القاهر الجرجاني، والتي تبناها الراحل العالم د.تمام حسان، منتهيا إلى “أن تمام حسان قد وقع في إطار السائد لدى البلاغيين القدماء ولدى السيميولوجيين المعاصرين، وهو الاعتقاد بأن غاية كل نص هي حمل معنى محدد” وأن “النصوص الأدبية والسردية خاصة تتمرد على هذا المفهوم، لأن المعنى في النص الأدبي ليس هو الغاية، فغاية النص الأدبي تكمن في تركيبه، وليس له معنى محدد يمكن أن يقال إن ما عداه خطأ، إنه مجرد لعب بالمعنى، بل إن المعنى فيه يكون مجرد خط في لوحة فنية، ومن ثمّ تكون القرائن فيه مجرد أقنعة، أو ظلال خادعة”(قراءة النص، سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط١، ٢٠١٣، ص٦٥)
وهناك القراءة الأدبية للنص، والتي تبناها الراحل أمين الخولي، حيث الاعتماد على الذوق والفطنة في فهم معنى العمل الأدبي وتفسير مقاصده، وهو ما يعرف ب”المنهج الأدبي في التفسير”، وقد تجلى فيما شرحه أمين الخولي عن التفسير الأدبي للقرآن الكريم، وطبقه من بعده تلميذه محمد أحمد خلف الله، في رسالته التي أشرف عليها أمين الخولي، والتي كانت عن القصص الفني في القرآن الكريم، كما طبقته تلميذته عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) في رسالتها عن التفسير الأدبي، وفي كتابها “التفسير البياني للقرآن الكريم”.
وفي نقده لهذه القراءة يقول د.الكردي:”ولعل أمين الخولي في هذه القراءة الفنية كان – بالإضافة إلى تأثره بشيخه محمد عبده- متأثرا بالاتجاه الفني الذي كان سائدا في أوروبا في دراسة الأدب إبان وجود أمين الخولي هناك وهو منهج كروتشة، فقد اهتم كروتشة بالوقائع الجزئية الفريدة في الأدب، وأهمل القوالب المثالية والذهنية، بما في ذلك إنكاره لنظريات الأنواع الأدبية باعتبارها قوالب منطقية مثالية زائفة تختزل الفن في نماذج وهياكل مثالية عامة، ولا تعبر عن النصوص الأدبية المتفردة”(قراءة النص، ص٨٦).
وقد أشار الكردي إلى أن الذي طور منهج القراءة الأدبية للنص الأدبي وأصله، هو الناقد الكبير الراحل شكري عياد، الذي رأي أن المنهج الأدبي في التفسير – كما تجلى عند أستاذه أمين الخولي – يعتمد على أسس واقعية وليست تهويمات مثالية مجردة، فشكري عياد يجمع بين الرؤيتين الذوقية والإنسانية، ويوضح الكردي ذلك تفصيلاً بقوله:”القراءة الأدبية للنص عند سكري عياد، عبارة عن مقاربة فنية تعتمد على تذوق الجمال في النص الأدبي، ليس باعتبار المتعة الجمالية غاية في ذاتها وفقط، كما هو الشأن في متعة اللعب أو عند مدرسة الفن للفن أو المتعة أو اللذة التي تصاحب التقاء الجسد بالجسد كما يذهب رولان بارت، بل بوصفها صورة من صور القيمة الجمالية والتي تتصل بأعماق النفس البشرية، وتتصل بالقيم الإنسانية والاجتماعية، وأن هذه المتعة لا تحول دون وجود معنى في النص، بل تتناغم معه”(قراءة النص، ص ٩٤).
وهناك القراءة الثقافية للنص، والتي تبناها الناقد الراحل محمود أمين العالم، وهو ما تجلى في كتاب”في الثقافة المصرية”، كما تجلت في كتابيه: تأملات في عالم نجيب محفوظ، وثلاثية الرفض والهزيمة، والذي تأثر بالمناهج البنيوية الغربية، وخاصة في كتاب “ثلاثية الرفض والهزيمة”.
وهناك القراءة التفكيكية حسب منهج جاك دريدا، وقد تناول الكردي العلاقة بين التفكيك والبنيوية، والتفكيك والسيميولوجيا والتفكيك والهرمنيوطيقا، وأبرز أعلامها وفلسفتها، قائلا:”إن القراءة التفكيكية في نهاية المطاف عبارة عن استراتيجية لإزالة ورقة التوت التي تغطي تمزق النص، بصرف النظر عما أراد المؤلف أن يقوله وعما لم يرد أن يقوله، إنها تنظر إلى النص على أنه مجرد حيل بلاغية لا علاقة لها بالتجارب الذاتية للمؤلف، إنه فقط مجموعة من الآثار التي تقود القارئ نحو النطق بالإجابة عن أسئلة كثيرة لا تقبل الإجابة، ليس لأنها صعبة، بل لأنها متناقضة، ومن ثم لا يكون هناك إلا التأملات الفلسفية التي تترك العقل في متاهة من المتناقضات”(قراءة النص، ص١٣١).