استكمل اليوم عرض كتاب ” التنوير الإسلامى.. صراع العقل والدين فى العصر الحديث ” للصحفى والمؤرخ البريطانى ” كريستوفر دو بلليج ” الذى يرد فيه على أكاذيب بعض المستشرقين بأن الإسلام مناقض للحداثة، ورافض للتجديد والتطوير، لأنه يصيب أتباعه بالجمود، ويقيد حركتهم تجاه العلم والتجريب والإبداع.
يركز ” دو بلليج “على ثلاثة أفكار رئيسة فى الكتاب: الأولى أن العالم الإسلامى، أو على الأقل البلدان الثلاثة التى اخنارها كنماذج ( مصر وتركيا وإيران )، خطت خطوات مهمة باتجاه التحديث السياسى والتكنولوجى والتعليمى خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وظهرت مؤسسات وشخصيات دينية حملت لواء الحداثة، وشجعت عليها دون أدنى حرج، بل جعلت تحصيل العلم الحديث فرضا دينيا.
والفكرة الثانية أن محاولات الإصلاحيين السياسيين فى الشرق للحاق بالغرب كثيرا ما كان يجرى عرقلتها بسبب الربط فى أذهان كثير من المسلمين بين التحديث والأطماع الاقتصادية والسياسية الغربية، ذلك أن الغرب قلما كانت تحركه النيات الحسنة تجاه الشرق الإسلامى، وقلما كان يدفعه شيء آخر غير المصلحة الذاتية، وهذه العلاقة المتوجسة من الغرب ومؤامراته جعلت المسلمين الراغبين فى التحديث هدفا لتهم الخيانة والعمالة لقوى أجنبية.
أما الفكرة الثالثة فهى أن تدخلات القوى الغربية أسهمت في إضعاف المؤسسات الديمقراطية في العالم الإسلامي، وأصابتها بالهشاشة، وقد تكرر هذا عدة مرات، عندما كانت الدول الغربية تشعر بأن أداء المؤسسات الديمقراطية لن يكون فى صالحها، وقد يخلق من البلدان الإسلامية منافسا قويا.
وفي الفصلين الأخيرين من الكتاب يتحول المؤلف إلى شرح أسباب التوتر الذى نلاحظه اليوم بين المسلمين والغرب، ويعزو ذلك إلى أن السياسات الغربية كانت منذ أوائل القرن العشرين أكثر طمعا وشراهة وعدائية، الأمر الذي أثار رد فعل ساخطا في العالم الإسلامي، وسط عامة الناس وخاصتهم، فقد تعاملت القوى الاستعمارية الغربية مع الشعوب المسلمة بسياسات خبيثة، واستعملتهم كبيادق جيوسياسية أثناء الحربين العالميتين، ثم تآمرت عليهم باتفاقيات الخيانة لتقسيم بلادهم التى ظلت لقرون وحدة واحدة، واصطناع حدود جديدة رسمها المستعمرون لإدخال تلك البلدان فى صراعات حدودية لمئات السنين، وهو ما أدى إلى ظهور حركات المقاومة الشعبية التى هزت البلاد الإسلامية تباعاً، وخلقت حالة النفور التى يشعر بها المسلمون تجاه الغرب وحضارته.
ويتساءل الكاتب عن الدوافع التي وجهت بعض الأيديولوجيات المقاومة للغرب إلى العنف الديني، وإحياء النزعة الرجعية من جديد ؟
ويجيب عن ذلك بالإشارة إلى أنه مع بداية الحرب العالمية الأولى 1914 كانت هناك مراكز فكرية رئيسة في الشرق الأوسط تشهد اتجاها تحديثيا لا يمكن تفاديه، وكانت تلك السنوات هي نقطة التحول في صياغة مشروع التنوير الإسلامي، حيث تحركت المنطقة بحثا عن الحداثة، لكن بعد ظهور اتفاقات المؤامرة والخيانة التى صاغتها القوى المنتصرة فى الحرب على حساب الشعوب المسلمة، تراجعت جهود الحداثة، وظهرت ” أيديولوجيات المقاومة ” أو ما يسميه الكاتب ” التنوير المضاد”، والسبب فى ذلك التراجع ليس الإسلام، وإنما التوجس من الغرب ومؤامراته.
ويؤكد المؤلف أن التنوير الإسلامي لم يحدث في بداياته بدافع من الغرب، وإنما لوجود الرغبة والاستعداد لدى المسلمين فى تطوير سبل حياتهم، واللحاق بركب الحضارة بعد عقود طويلة من التخلف والجمود، وقد قوبلت الحداثة الغربية فى البداية برفض الكثيرين من المحافظين والرجعيين فى الشرق، إلا أنها استقرت على فكرة ” تحجيم الحداثة “، وقصرها على سلسلة من المجالات التى من شأنها التعايش مع القيم الدينية.
ويقول ” دو بلليج ” إن اتهام الحضارة الإسلامية بمقاومة الحداثة يؤدي إلى طريق مسدود، لأن من يتبنون هذه الفكرة يتجاهلون النجاحات التي حققها مسلمون يعيشون في الغرب، اندمجوا داخل مجتمعاته، وتأقلموا مع قيمه الحديثة، مع احتفاظهم بإيمانهم وعقيدتهم.
ويركز المؤلف على أن التركة الإيجابية لنهوض التنوير في العالم الإسلامي مازالت موجودة جزئياً، رغم كل ما كان، فالحقيقة التى لامراء فيها أن المسلمين أقبلوا ذات يوم على الأفكار والعلوم الحديثة، وتبنوها بشكل ذكي وانتقائى، مع بقائهم أوفياء لأنفسهم ولعقيدتهم، وهذا ما يبعث على الأمل بإمكانية استئنافه، إذا لم تصاحب هذه الأفكار والعلوم أطماع غربية للسيطرة والتحكم.
وبكتابه هذا يقدم “ دو بلليج” أطروحة متفائلة ومضادة لنظرية ” صراع الحضارات”، ويعرض حجة معاكسة لما تم الترويج له عن حتمية الصراع بين المسلمين والحضارة الغربية، مؤكدا أن الإسلام لا يناقض الحداثة ولا يحاربها، ولا يرفض التطور العلمى والتكنولوجى، بل يشجع على التعلم منهما، والأخذ بما لا يتعارض مع قيمه وثوابته، وأن مشاكل العالم الإسلامي مع الغرب ليست فى الجانب الحضارى والتنويرى وإنما فى تاريخ طويل ومرير من العداوة، صنعه الصليبيون والمستعمرون الأوروبيون، الذين تآمروا عليه قديما، وما زالوا يكنون له مشاعر الاحتقار، ويريدون فرض رؤيتهم وقيمهم وطريقة حياتهم على شعوبه بالقوة الجبرية.
وعموما فإن هذا الكتاب يأتى استكمالاً لجهود المفكر الأمريكى الفلسطينى الأصل إدوارد سعيد، الذى سبق إلى تأصيل التنوير العربي والإسلامي في كتابه ” الاستشراق” الصادر عام 1978، حيث يؤكد فيه أن السبب الرئيس فى الشرخ الحاصل بين الحضارة الغربية والثقافة الشرقية يرجع إلى استعلاء الغرب، الذى خلق عنده تصورا خياليا سطحيا عن الشرق الإسلامى، يجعله فى درجة أدنى، فالشرق بدائى لا عقلاني، استبدادى متطرف عنيف، خطر على العالم، ولابد من إجباره على ترك قيمه الرجعية وتبنى قيم الحداثة التقدمية الغربية المعاصرة، وقد تعاونت ـ للأسف ـ نخب عربية مستغربة مع المؤسسات الاستعمارية الغربية فى ترويج هذه التصورات الخبيثة، لتبرر لها أطماع الهيمنة.
أسأل الله سبحانه أن يعيننا على تقديم عرض لهذا الكتاب القيم فى قادم الأيام .