لم يستجب الطرفان المتصارعان فى السودان لعشرات الدعوات التى وجهت إليهما من أجل الهدنة ووقف القتال، ويبدو أن لديهما إصرارا على السعى فى طريق الحرب إلى نهايته، حتى لو كان ذلك على حساب تدمير السودان وتهجير السودانيين، فكل منهما يعتقد بيقين كامل أنه على الحق المبين، وأن النصر معقود له، بما يتكئ عليه من دعم داخلى وخارجى، ييسر له القضاء على الآخر قضاء مبرما.
هذه الغواية هى أس البلاء، الذى يدفع كلا الطرفين المتحاربين، المتحالفين قديما، إلى التشبث بموقفه وطموحه إلى آخر مدى، رغم أن العالم يموج من حولهما، خوفا على السودان، أو تآمرا عليه، و طمعا فى ثرواته.
والمخلصون للسودان يتحركون بحرص شديد حتى لايجرى تدويل الصراع، ويعملون من أجل إبقائه فى دائرته المحلية، أو دائرته العربية أو الأفريقية الضيقة، لكى يسهل حله، ولكى لا تدخل أطراف غير بريئة إلى معترك الحرب فتزيدها اشتعالا، مما يجعل الوصول إلى حل سلمى توافقى شبه مستحيل، فى هذا البلد المحاط بالمخاطر من كل جانب.
والأطراف غير البريئة التى تقف على أهبة الاستعداد للخوض فى المعترك السودانى كثيرة، ولها أطماعها ووسائلها المشبوهة، وترى أن الفرصة قد حانت الآن، فالعملاق السودانى يترنح على شفا حرب أهلية تستنزف قوته، وتهدد وجوده كدولة وشعب.
ومنذ زمن طويل يعانى السودان الشقيق من صراعات وأزمات داخلية، سياسية ودينية وعرقية وقبلية، أدخلته فى دوامات عديدة، وهددت وحدة أراضيه، وأدت فى مرحلة من المراحل إلى فصل جزئه الجنوبى الغنى بالنفط والموارد الطبيعية، واليوم أصبح أكثر تهديدا بالمزيد من التفكيك بسبب هذه الحرب المجنونة التى يخوضها طرفان مسلحان، مدعومان من الخارج، والجميع ينتظر الآن ما سيحدث فى كردفان ودارفور.
ومعروف أن الصراعات الداخلية هى البوابة الملكية للتدخل الخارجى، وكلما اشتدت الصراعات الداخلية واتسع مداها كانت هناك قابلية أكثر لهذا التدخل الذى يؤدى تلقائيا إلى مزيد من التفكيك والضياع.
ورغم أن الصورة واضحة ومحددة جدا فى الصراع السودانى، فهناك سلاح مشروع، هو سلاح القوات المسلحة الوطنية، وسلاح طفيلي غير مشروع، هو سلاح الدعم السريع، وليست هناك دولة طبيعية تقبل بوجود هذين النوعين المتنافسين من السلاح، إلا أن البعض يعطى لنفسه الحق و المبرر لدعم السلاح الطفيلى بدعوى أنه اكتسب شرعية فى فترة ما، وكان شريكا فى السلطة الحالية، لكنه مبرر لايصمد أمام المنطق السليم، بعد أن تحول هذا السلاح إلى عدو، ووجه رصاصه إلى الشعب.
قد تتحمل الشعوب أوضاعا اقتصادية صعبة، وتصبر على الفقر والجهل والمرض، على أمل أن تتحسن هذه الأوضاع فى يوم ما، لكن الصراعات السياسية والحروب الأهلية تضع الوطن فى مهب الريح، وتضعف مناعته، وتجعله عرضة لأطماع الطامعين فيه، المتربصين به، وهذا ما دفع المفكر الجزائرى المعروف مالك بن نبى إلى التحذير مما أسماه ” القابلية للاستعمار”، أى أن تخور قوى الأوطان بسبب صراعات الداخل، فتصبح أكثر قابلية لأن يقتحمها المستعمر الخارجى، ويعمل على تقسيمها وتفكيكيها، فلا تقوم لها قائمة.
والمشكلة الأكبر أن الصراع فى السودان، الذى تحول إلى مأساة إنسانية حقيقية، صار يؤثر بشكل مباشر على الدول المجاورة له، بل إن الرئيس الأمريكى بايدن يدعى أنه يهدد الأمن القومى الأمريكى، كما يهدد السلم والأمن الدوليين، وهو لا يقول ذلك مجاملة للسودانيين، وإنما ـ ربما ـ ليبرر التدخل الأمريكى المنتظر، الذى سيبدأ بفرض عقوبات، ثم ينتهى بإجراءات خشنة ليخلق نظاميا مواليا بالكامل فى الخرطوم، لا يسمح للصين أو لروسيا بالمنافسة على هذا البلد الغنى.
والحل الأمثل المطروح حاليا يقتضى أن يستجيب الطرفان المتصارعان لدعوات وقف إطلاق النار، والذهاب إلى مفاوضات جادة تحت مظلة عربية أفريقية محايدة، تكون مهمتها تجنيب المدنيين ويلات الحرب، وفتح الطريق أمام المساعدات الإنسانية عبر بعثات الأمم المتحدة، والعمل على توحيد المؤسسة العسكرية حتى لاتكون شرعية السلاح فى السودان إلا للجيش الوطنى الذى هو لكل السودانيين بلا تمييز، والتعجيل بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية يختار بمقتضاها الشعب السودانى سلطة مدنية ديمقراطية حديثة، تنقله من هذا المستنقع إلى وضع أفضل يستحقه، يكون فيه هو صاحب الكلمة العليا فى إدارة شئونه بلا وصاية.