أن أي اضطرابات يشهدها السودان ستكون لها انعكاسات عميقة على ملفات استراتيجية حيوية، ومن بينها الأمن المائي، لافتاً إلى أن تماسك الموقف السوداني والمصري يمثل «ضمانة حقيقية للحفاظ على الحقوق التاريخية والثابتة قانونيا لدولتي المصب». أن القيادة السياسية المصرية تسعى حاليا وبكل السبل وخلال مشاورات مع كافة القوى الإقليمية والدولية للتدخل ووقف الحرب، واحتواء النزاع لمنع تفاقم الأزمة واستمرارها، وتجنب تداعياتها الكارثية على مصر والمنطقة.
أن عملية الدمج في القوات النظامية والتي هى مكون مهم ورئيسي في أي عملية سياسية تنقل السودان إلى حكم مدنى دستوري، كانت تسبب لدى عناصر تلك القوات حساسية كبرى، لاسيما لدى قادتها الكبار، الذين ينظرون إلى الدمج النظامي أسلوباً ينزع عنهم كل الامتيازات التي يتمتعون بها لاسيما التأثير المباشر الخفي والظاهر في الشأن السياسي العام في السودان ككل،
ويضع عليهم قيوداً ومسئوليات ليسوا مُعتادين عليها، كما يقيد حضورهم الطاغي فى الاقتصاد السوداني لاسيما مناجم الذهب، التى تمثل عاملاً رئيسياً فى الثراء الكبير لقيادة الدعم السريع، بالرغم من الأوضاع المعقدة للاقتصاد السوداني ككل.
أن المبادرة المصرية الخاصة بتقريب وجهات النظر لإكمال التسوية السياسية في السودان، ككل المبادرات الدولية والإقليمية التي تم رفد الساحة السياسية بها كالمبادرة السعودية – الأميركية، والآلية الثلاثية التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد، فضلاً عن المبادرات المحلية، لكنها أي المبادرة المصرية، ربما تأخرت كثيراً في طرق باب الأزمة السودانية،
ويرجع ذلك لانشغال القاهرة بأزمتها الاقتصادية، وملفات تخص القضية الفلسطينية والأوضاع في غزة والحرم الأقصى، بيد أننا في السودان نعتبر مصر جارة شقيقة تربطنا بها علاقة تاريخية منذ عشرينيات القرن الماضي، بالتالي لديها علاقات أفقية ورأسية مع كل أطراف أزمة البلاد السياسية”.
صحيح هنا أن الخلاف الظاهر يكمن فى رفض دقلو قيادة الفريق البرهان لقيادة القوات المسلحة فى المرحلة الانتقالية التى اتفق عليها فى الاتفاق الإطارى الذى كان يفترض أن يتم التوقيع عليه فى 6 إبريل الجاري، حيث طالب دقلو بأن تكون قيادة القوات المسلحة المطعمة بعناصر الدعم السريع التى ستدمج تدريجياً، لشخص مدنى كرئيس الوزراء،
وهو ما رفضته القوات المسلحة، جنباً إلى جنب مع انتقادات الجيش السودانى للدعم السريع بكونها عناصر عسكرية غير منضبطة، وأن دمجها سيثير الكثير من مشكلات الانضباط والولاء داخل الهيكل العام للجيش السوداني، لاسيما وأن قوات الدعم تتضمن عناصر غير سودانية ومن بلدان مجاورة، ما سيضع أعباء كبرى على الجيش فى المرحلة المقبلة.
الأسباب وثيقة الصلة بالطموحات الشخصية، والثراء الاقتصادي، والانفلات من قواعد الانضباط القانونى لدى قادة الدعم السريع، وتلك الموضوعية الُمشار إليها، تفسران اندلاع القتال، كما تكشف حجم المراوغة الذى حاولت به قوات الدعم السريع تبرير تحركها العسكرى غير القانونى باعتباره يستهدف تحرير السودان من “احتلال مصري” مزعوم، لعل ذلك يضفى شرعية وتأييداً شعبياً على تحركها للسيطرة على السودان وشعبه، وإخضاع القوات السودانية المسلحة لأهدافها. وهو الأمر الذى يعكس التكوين النفسي والفكري لتلك القوات وثيق الصلة بنظام البشير،
والذى لعب دوراً غير مسبوق لإثارة الكراهية لدى عموم الشعب السودان تجاه مصر والمصريين، والتى ترد عليها مصر الرسمية والشعبية باحتضان الآلاف من السودانيين الذين جاءوا إليها هرباً من تردى الأوضاع فى بلدهم، ويُفضلون الإقامة والعيش فى مصر، حيث يُعاملون بأريحية كما يُعامل المصري في كل شئ.
معروف أن مصر حريصة على التعاون مع كل الجيوش العربية، وإجراء التدريبات المشتركة وفق برامج معلنة، تستهدف تعزيز التعاون العسكرى والأمنى انطلاقاً من رؤية عروبية راسخة تستهدف حماية الأمن القومى العربى، وتثبيت الاستقرار فى المحيط الإقليمى ككل، ومواجهة عصابات التهريب والجريمة المنظمة وجماعات التطرف الدينى المسلحة.
ووجود قوات مصرية محدودة فى مطار مروى السوداني هو جزء من خطط التدريب المشترك المعلن مع القوات المسلحة السودانية، وأى تزييف لتلك الحقائق مردود على ناشره، ويفضح المرامى الخبيثة له، وأهدافه فى خدمة القوى الطامحة للإضرار بالمصالح السودانية والمصرية المشتركة. ولا شك لدى أي مصرى وسودانى وطني موضوعي بأن القوات المصرية وشقيقتها السودانية تظلان درعاً للأمن المشترك.
هذا القتال المأساوي الذى بشر به دقلو بأنه سوف يستمر أياماً حتى النصر على القوات المسلحة لبلاده، وأنه يحمل الخير للشعب وسيقود إلى التحول الديمقراطى، والرافض لأى وساطات من أجل التهدئة والتفاوض لاحقاً، يثير فى الواقع الكثير من الشكوك حول المستقبل، لاسيما العملية السياسية والوساطات الرباعية والأممية والإفريقية،
وكيف أنها لم تضع فى اعتبارها تلك الحساسيات والطموحات الضارة، وتصورت أن قوة الدفع الذاتى للاتفاق الإطارى يمكنها أن تتجاوز كل تلك الإشكاليات العميقة، وأن استبعاد بعض المكونات السودانية المتحفظة على أجزاء مهمة من الاتفاق الإطارى، لا يسبب عوائق كان يجب التعامل معها بجدية أكبر لجعل العملية السياسية شاملة للكل، وغير تمييزية، قبل الاندفاع إلى خطوات غير مكتملة الأبعاد.
فمن ناحية، لا يُتصور لقوة لا تتجاوز 100 ألف مقاتل غير نظامى، ولا تزيد خبراتها عن حروب العصابات وممارسة الانتهاكات ضد المواطنين، وافتعال الأزمات، ومُسلحة بأسلحة خفيفة، أن تكون قادرة على بسط سيطرتها على قوات نظامية ذات تسليح أكبر وخبرات قتالية وإدارية واتصالية كبرى، ويمكنها بعد ذلك بسط السيطرة على بلد متنوع وكبير الحجم جغرافياً كالسودان، وفرض نظام سياسي يعكس أهواء قادتها. والمرجح أن القتال فى حال رفض أى وساطات،
سوف يستمر بالفعل عدة أيام إن لم يكن عدة أسابيع، وسوف يقود إلى تدمير البنية الأساسية لقوات الدعم السريع وحلها، والتعامل مع الرافضين منها كميليشيا متمردة ضد القانون العام، وإخضاع قادتها للمحاكمات لاحقاً.
أما في حال قبول وساطة بعد أيام قليلة من القتال، كما تأمل الوساطات المتعددة العاملة فى الداخل السودانى، فلن تكون سوى مرحلة لالتقاط الأنفاس، فعنصر الثقة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ككل، وليس فقط بين القادة هنا والقادة هناك، بات غائباً تماماً، كما أن ثقة المكون المدنى فى محترفى الانقلابات والنزوع إلى تدمير البلاد، بات مكسوراً وغير قابل للإصلاح إلا بمعاناة شديدة.
“صحيح أن مصر تتحرك باتجاه مصالحها الأمنية والاستراتيجية والاقتصادية، لكنها ليست بعيدة عن الأمن القومي السوداني، فهي تتضرر من حدوث أي خلل في السودان أمنياً وسياسياً، بالتالي فهي تريد جمع كل الخيوط لإحداث خرق في العملية السياسية السودانية، وإن كان هناك تحديات وعقبات ستواجهها لكن باستطاعتها التغلب عليها”.
أن إجلاء البعثات الأجنبية من السودان يعني بلا شك إطالة أمد الحرب، وصعوبة حسم المعركة والنزاع بين الطرفين المتنازعين، وهما الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، خاصة أن الأخيرة مجهزة ومدربة تدريبا قتاليا كبيرا ومسلحة، بشكل يمكنها من خوض حرب شوارع وحرب عصابات مستمرة تستنزف وتنهك الجيش السوداني.
أن استمرار أمد الحرب يعني تدفق الملايين من النازحين السودانيين والأقرب لهم بحكم الجوار والإخوة مصر، ما يزيد العبء على الحكومة المصرية لاستيعاب كل هذه الأعداد، مشيرا إلى أن الضرر الآخر على مصر ينجم من انشغال السودان في أزمة الحرب وبالتالي إضعاف الموقف المصري في مفاوضات سد النهضة مع أثيوبيا.