يعد محمد علي باشا مؤسس النهضة المصرية الحديثة، بسبب عقليته الاستراتيجية وأحلامه وطموحاته الواسعة، تمكن من فهم الامكانيات الجيوسياسية التي تمثلها مصر، لم يستغرق في سبيل هذا الكثير، شرع منذ اللحظة الأولي في تبني عمليات واسعة للتحديث الذي كان من أهم أولوياتها (التعليم والزراعة وانشاء الصناعات وأيضا بناء جيش حديث) لا يستند على شراء العبيد وإنما تكوينه من أبناء البلد الأصليين من المصريين أبناء الفلاحين أو السودانيين.
أرى أن الفكر المعاصر يتجاهل حقيقة أن أسرة محمد على وأبنائه وأحفاده الذين ولدوا في مصر ينقسمون إلى اتجاهين، الأتجاه الأول يحمل مفاهيم الأب والجد ويتبنى أفكاره وأحلامه العظيمه بالاضافة إلى إنهم أصبحوا مصريين بالميلاد على غير ما كان عليه الجد بينما الاتجاه الثاني من أبناء محمد علي تخلى عن تلك الطموحات ورضي أن يكون مجرد حاكم تابع للخلافة العثمانيه حينا أو راضخا خانعا للتدخلات الغربيه التي قامت بها فرنسا وإنجلتر والتي تحولت بعد ذلك إلى احتلال دام 71 عام .
- دقة السياق
في هذا الصدد تتناول رواية بالحبر الأزرق للروائي هشام الخشن واحدة من الشخصيات التي كان يمكن لها أن تلعب دورا هاما في التاريخ المصري لو تهيأت لها الظروف وهو الأمير مصطفى فاضل حفيد محمد علي باشا وأبن أبراهيم باشا الذي مثل واحدة من أهم العبقريات العسكرية في ذلك الوقت، والذي تمكن من ضم بلاد الشام والحجاز وفلسطين وكاد أن يدق أبواب إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، لولا هلع الأمبراطوريات الغربية وتسارعها لحمايتها -والتي تولت بنفسها القضاء عليها فيما بعد-، فما كان يهمها تبعا لفقه الأولويات هو عدم ظهور قوة جديده عظيمة تعتمد على مناهج حديثة في نموها وتطورها، في هذا الصدد ينبغي الإشارة إلى أن الوالي محمد سعيد والأمير مصطفى فاضل وسعيد كامل باشا والأميرة نازلي التي انشأت الجامعه الاهليه المصرية أحد منارات التعليم، فضلا عن دعمها لقادة الحركة الوطنيه، كانوا يعشقون هذا الوطن ويبحثون عن أسباب رفعته على الوجه الآخر نشهد رجال مثل الوالي عباس الأول والخديوي محمد توفيق والملك أحمد فؤاد استسلموا لأجنبي ويعملون طبقا لمخطاطاته (عباس للخلافة العثمانمه، والبقية للحكم البريطاني) ضد آمال وأحلام الشعب المصري في الحرية والاستقلال، أي أننا أمام تناقض بين اتجاهات الحركة العلوية في حكم مصر متمثلا بين إتجاه يؤمن بالوطنية وأخر بلغت علاقته بالاستعمار حد العمالة، هذا التناقض الحدي ما أعتقد أنه قد غاب عن رواية بالحبرالازرق التي نحن بصددها، بالنظر إلى ما ورد في ص45 أود أن أطرح سؤالا حول الكيفية التي قُدم بها الأمير مصطفى فاضل متصاغرا، ذاتي النزعة، باحثا عن المظاهر، يثير ضيقه مجرد عدم حضوره حفل افتتاح قناة السويس، في حين يتجاهل النص الوقائع والحقائق الفعلية مثل أن مصطفى فاضل كان الوريث المحتمل لولاية العرش بوصفه الأخ التالي للخديوي إسماعيل الذي كان يعد العدة لتغيير وراثة العرش في مصر بنقله من أكبر الأبناء في الأسرة العلوية إلى حكره على أولاده فقط، وهو الذي دفعه للبحث عن حجج لنفي مصطفى فاضل إلى الأستانة.
كما أنه من الغريب أن يختار الكاتب شخصية “ليديا ستون” لتحكي عن أحوال ومعاناة المصريين في حفر القناة دونما جميع شخوص النص أمثال الأمير مصطفى فاضل أو الأميرة نازلي وكلاهما مهتم بمقادير الشعب المصري أو اللجوء لشخصيات مثل -عبدالله النديم والشيخ محمد عبده وهما من ساهما في قيام الثورة العرابية بعد عقد من الزمن- وأختار إن يكون المتعاطف مع معاناة المصريين جاسوسة مكتب المخابرات البريطاني التي لم تطأ قدماها أرض مصر ولا سبق أن التقت بمصريين ولم تكن لها علاقة بالأمر في مجمله، ولم يمرعليها في قصر الأمير في الأستانة سوى أربع شهور، أستشعر في هذا النمط من الكتابة ستر لعورة الاستعمار وتبييض لوجهه بعد الدمار الذي ألحقه ببلادنا. - من إيجابيات النص الطريقة التي قدم بها الكاتب شخصية الأميرة نازلي حفيدة إبراهيم باشا والتي تلاقت مشاعرها مع خليل باشا الذي أصبح وزير الخارجية للدولة العثمانية بسبب تماهي أفكاره مع أفكار أبوها التقدمية -مشروع مصطفى فاضل-.
- من الأشياء الهامة التي تناولها النص ما جاء في ص 58 التي تضمنت حوار بين مستر “سي” رئيس مكتب الخدمة السرية، وعميل المخابرات “سيدني بويد” هو حوار كاشف في تحليل السياسة البريطانية وممارستها سواء على المستوى الدولي بين “مصر- الدولة العثماني” أوالمستوى الداخلي “بين الحركة الوطنية والخديوي” وإدارة واستغلال الجميع لصالح الامبراطورية البريطانيه وهي موشكة على خوض الحرب العالمية الأولى.
الروايات الضعيفة
- يرجع الكاتب أحداث التغيرات الكبري في التاريخ المصري إلى شخصيات هامشية مجهوله لم تأتى على ذكرها مراجع التاريخ الأصلي مثل شخصية فرنسية تدعى “ماسيو دليسيبس” فيقول الكاتب في ص 57 (مد محمد علي خيوطا مع كل القوى الموجودة في مصر إبان هذه الفترة ومنها الفرنسيين، فأرسل مبعوث أسمه ماسيو ديليسيبس ليعضده لدى أشراف البلد) بالنظر إلى جملة “ليعضده لدى الأشراف” نرى أن ماسيو هو الفاعل وأشراف البلد هم المفعول به فكيف لماسيو أن يعضد “محمد علي” عند الأشراف الذين ليس له بهم صله والذين كانوا على صراع مميت مع الفرنسيين قبل سنوات قليلة.
- في ص87 تضم الرواية قصة على الهامش تروي حكاية ليديا ستون التي وقعت في غرام ابن أحد النبلاء والوريث الوحيد واستمرت في قصتها حتى بعد ما حدث لكاثرين أبنة نفس العائلة جراء علاقتها الغرامية مع شخص ينتمي لطبقة أدنى والسؤال كيف ظنت ليديا أن هذه العائلة ستسمح لها بتحقيق حلمها بالزواج من وريثها الشرعي، ويدفعها طموحها الي الحمل منه سفاحا..؟، أرى أن القصة في مجملها كلاسيكية مكرره وتعبر عن العلاقة بين الطبقات ولكن العرض كان غير منطقي، فكيف لا يظهر انعكاس موت كاثرين في ذهن ليديا أثناء الأحداث، والسبب الرئيسي في قتلها كان نفس التفاوت الطبقي، كيف لها وهي الخادمة وهوالسيد أن تطمئن لعرضه للزواج بها وهي مجرد عاملة في المنزل هذا أمر غير منطقي، الطبيعي ان تشعر باليأس والخوف.
- قصة هامشية أخرى على جانب المتن الأصلي للروايه حكاية العقد والتي اتخذت فيها المخابرات البريطانية موقفا معاديا من ليديا ستون عميلتهم والمفترض أن يحموها خاصه وإنها تدافع عن حق شرعي اكتسبته مقابل سنوات عمرها داخل القصر، هذه القصة التي اتخذها الكاتب حجة للتعرض لقضية مذابح الأرمن دون أي أسباب أو دوافع ذات صله بالتاريخ الرئيس لأبطال النص وهما الأميرة نازلي والأمير مصطفي فاضل أو القضية المصرية في الأستانة، وكأن الغرض هو أبرازأيدولوجية الكاتب المتعلق بتبرير سرقة الأرمن للعقد مقابل المذابح وهو ما يتنافي مع الوقائع والحقوق الأصلية للملكية، ولو فكرنا بهذه الطريقة فأننا نخلق فوضى عامة تتيح لكل جماعة أن تختصم حقوقها من غير ذي صفة من أشخاص هم الملاك الحقيقين للشئ.
الحدث التاريخي بين المتخيل والموضوعي
تقتطع الرواية التاريخية جزء واسعا من الإبداع الروائي المصري الحالي وإذا أقرينا بالحرية المطلقة للكاتب في التخيل والتعامل مع التاريخ إلا إن هذا لا ينبغي أن يكون على أطلاقه فثمة محددات رئيسية للتناول وعلى رأسها الالتزم بالسياقات الموضوعية للنص التاريخي وهو ليس بالأمر السهل وخاصة إذا كنا إذاء تاريخ شوهه الاستعمار وغيرهم ممن يخدمون مصالحهم الخاصة، يشكك النص في علاقة محمد علي بإبراهيم باشا وهو أمر يثير السخريه، فقد عبرت الأربعين عاما التي جمعت محمد علي بإبنه إبراهيم عن وحدة عضوية بينهما في الأهداف والروؤى الاستراتيجية وكان نعم الإبن ويمثل اليد العسكرية الناجحة التي حققت أحلام أبيه والمدقق في التاريخ يمكن له أن يرى الاحترام البالغ والطاعة المطلقة التي حملها أبراهيم باشا لإبيه وأمتثاله لأوامره عن قناعه وأيمان كبير بمشروع النهضة الذي أسسه، وإذا كان هناك ثمة خلاف في العشرة سنوات الأخيرة فقد انعكس في تجاوز إبراهيم باشا لإبيه في إيمانه بمصريته وتقديره للعسكرية المصرية من أبناء الفلاحين ورغبته في تحقيق العدالة بينهم وبين أقرانهم من الأتراك وهو في ذلك يتجاوزأفكار محمد علي نفسه، كما كان أكثر اعترافا بمصريته، وكذلك ما جاء في ص 201 في اتهام ليديا للأميرة نازلي والأمير مصطفي فاضل بالتعالي على المصريين والشعور بالدونيه أمام العثمانين وهو ما نفته وقائع النص نفسه ويمكن الاستدلال على ذلك بما جاء في النص من الرسائل التي وجهها مصطفى فاضل إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بإقرار الدستور وهو أمر كان عثير علي السلطنة العثمانية المؤسسة على الاستبداد، كما ظهر ذلك بشكل واضح في ثورية الأميرة نازلي التي دعمت جماعة تركيا الفتاة المعارضة لحكم السلاطين
ولهذا أود التركيز على أهمية دور الكاتب في دقة البنيان المعرفي للنص وإلا يسقط في مصيدة تزييف التاريخ في الوقت الذي نحن فيه في أمس الحاجة لإزالة التشوهات التي تعيقنا عن فهم هويتنا.