في الحب من العجائب ما يقدحُ زنادَ الفكر ويُشعل فتيلَ الحكمة.
ورغم أنهما - الحب والحكمة - متوازيان فلا يلتقيان ، إلا أن الحكمة قد تستمدّ تعاليمَها من وقائع الحب ، في حين أنّ الحب ينفض يديه من أقوال الحكمة والفلسفة وعلوم المنطق والكلام.
ولقد أحبها حقاً وأحبته ، واشتعل في قلبيهما الوهَجُ الذي يمنح للحياةِ معناها ويهَب للجمال مبررات سطوعه ، وعلى الحكمة الخالدة الآن أن تخضع لهٰذا المعنىٰ ، وعليها أيضاً أن تستنيم لتلك المبررات.
ولعلها المرة الأولىٰ التي سألها فيها عن دخيلةِ نفسها ، بعد تسلّط جمالِ عاطفتها عليه واستحكام هواها في قلبه ، وهي تشهد له أنه ما تطفَّل عليها يوماً بالسؤال ولا بالاستفسار عن شيءٍ خارج حدود قلبيهما المندمجَينِ معاً.
فلما حان ذلك في سياقه الطبيعي ، سألها عن صِباها - مُخلصاً - وعن أيام شبابها الأول، حتىٰ يكون عمرُ حبهما أكبرَ مما هو عليه الآن ، ليصبحَ خمسين عاماً من الوجد والهُيام بدلاً مِن بضعة أعوام هي عمر حبهما الفعليّ حتىٰ هٰذهِ الأيام.
دفعَه إلىٰ ذلك اطمئنانهُ بها وركونه إليها - وهو اطمئنانٌ لا غنىً عنه للنفس المُحبةِ حالَ توهّجها بالقُرب - وهو اطمئنانٌ وليدُ صراحتِها الفصيحة التي يشعّ بها ضوءُ عينيها البليغتين قُبيل تحرُّك شفتيها بالكلام في أيّ لقاءٍ كان يجمعهما أو مكان.
إلا هٰذه المرَّة ، فقد فشلَت في الإفصاح ، حتىٰ خشِيَ على الجوهر الثمين - الذي أحبه فيها - مِن غُبار كلماتِها المُواربة ، كما خشيَ علىٰ التماع وجهها وزجاجِهِ الأملس الشفيف من ضباب الأجوبة الحذِرة التي تحجب عنه قلبها الضخّاخ بالنعيم والحياة.
وما راعه إلا غريزة العاشق الكامنة فيه ، تلك التي يلتقط بها الكلمةَ الكامنةَ من قرارة الضمير كما يقتنص بها الكلمةَ العائمة علىٰ سطح الشعور ، فيعالج هٰذهِ وتلك بردودِ أفعاله التي أنضجتها شمسُ الصعيد اللافحة قبل نزوحه إلىٰ القاهرة.
وقد يشتمّ بغريزتِهِ تلك رائحةَ الكلمة - مِن علىٰ مسيرة أميال - وهي تدور في فِكر صاحبها قُبيل أن تتجمّع حروفها في ذهنه وتنزلق منه إلىٰ مخارج الألفاظ على اللسان ، فضلاً عن تحبيره إياها في صحيفة الرسائل والمخاطبات.
وراعه رؤية الحب والحكمة يصطرعان أمامه مع استمرارها في أجوبتها غير المفصحة - رغم تبرّمه ـ فلم يدرِ عندئذٍ فرقاً بين القلق في قلبه وبين الأمان ، ولم يدرِ لأيهما تكون الغَلبة : للحب أم الحكمة.
- ففي الحب “شيء من القلق” كما فيه “كل شيء من الأمان”.
- وفيه “شيء من الألم” كما فيه “كل شيءٍ من اللذاذةِ والإمتاع”.
- وفيه “شيء من القسوة” كما فيه “كل شيء من الانعطافِ والحُنوّ”.
- وفيه “شيء من المراجعة” كما فيه “كل شيء من التسليم والانقياد”.
- وفيه” شيٌ من النقائص” وليس فيه شيءٌ واحد من “الزيف أو البهتان”.
- وقد يكون فيه”شيءٌ من المداراة” ، ولكن لا يكون فيه شيءٌ مِن المخاتلة علىٰ أي وجهٍ من الوجوه.
- وفي نسيجه “خيطٌ مِن عالم الغيب” كما في نسيجه “خيوطٌ من عالم المشاهدةِ واليقين”. وليست المشكلة قائمةً بين الرجل والمرأة ، بقدر ما هي قائمةٌ في الحب بينهما ، إذ لا حل لهٰذهِ المشكلة بدونه هو ، الحب نفسه.
فولاذ عبدالله الأنور
.