يزعم رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أن حكومته تعمدت إرسال رسالتين إلى الرئيس الفلسطينى محمود عباس ( أبو مازن )، ردا على الكلمة التى ألقاها فى الأمم المتحدة، وكان فيها واضح العداء لدولة إسرائيل، وتحريض المجتمع الدولى عليها، خصوصا عندما طلب توفير حماية دولية للشعب الفلسطينى، وتأكيده على أن الإسرائيليين لاعلاقة لهم بالقدس الشرقية والمسجد الأقصى.
أما الرسالة الأولى التى يقصدها نتنياهو فهى اقتحام وزير الأمن القومى إيتمار بن غفير باحة المسجد الأقصى مع مجموعة من أتباعه تحت حراسة أمنية مشددة، صباح الأحد الماضى، وقيامهم بأداء طقوس تلمودية، ثم إدلائه بتصريحات استفزازية أبدى فيها سعادته بدخول المسجد، الذى يعد ـ حسب زعمه ـ أكثر الأماكن أهمية للشعب الإسرائيلى، مؤكدا : ” نحن أصحاب السيادة على هذه الأرض ( أرض المسجد الأقصى )، وعلى القدس، وعلى أرض إسرائيل كلها “.
وأما الرسالة الثانية فهى تعمد الحكومة الإسرائيلية عقد جلستها فى اليوم نفسه ( الأحد الماضى) فى النفق الذى حفرته حكومات سابقة تحت المسجد الأقصى للتعجيل بهدمه، وتأكيد نتنياهو عقب الاجتماع على أنه يلفت انتباه أبى مازن إلى أن حكومته ” تعقد اجتماعها الخاص هنا فى عمق القدس وحرمها، لنوضح ارتباطنا بعاصمتنا، وأن اليهود هنا قبل ثلاثة آلاف عام، فقد كانت القدس عاصمة لمملكة داوود من قبل أن تكون لندن عاصمة لبريطانيا، وقبل أن تكون باريس عاصمة لفرنسا، وواشنطن عاصمة للولايات المتحدة “.
ولا يخفى أن هذا المنطق الذى يتحدث به نتنياهو مدفوعا بغرور القوة لايمكن أبدا أن يكون منطق رجل يبحث عن حل سلمى، إذ لا يعترف أصلا بحق الشعب الفلسطينى فى السيادة على أرضه ومقدساته، ولا يعترف بأن ” أبو مازن “، الذى يمثل الاتجاه الفلسطينى الأكثر اعتدالا بين الفلسطينيين وفق المعايير الإسرائيلية الأمريكية، شريك فى عملية تفاوضية طويلة المدى، وصار يتعامل معه كعدو يستحق العقاب، لأنه تجرأ وطالب ببعض حقوق شعبه من على منبر الأمم المتحدة.
وقد اعتاد حكام إسرائيل أن يتوجهوا بمثل هذا الخطاب العدائى إلى حماس وحزب الله وإيران لتبرير جرائمهم المتكررة، لكن نتنياهو يعمل جاهدا على شيطنة أبى مازن، لكى ينزع عنه صفة الشريك الفلسطينى، الذى يحظظى بقبول دولى واسع، ويدمغه هو الآخر بالإرهاب.
والرسالتان اللتان قصدهما نتنياهو تعبران عن نزعة لتحدى القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، وفرض الحل الذى يريده التيار الأكثر تشددا داخل حزب الليكود، ويعبر عن اليمين الدينى المتطرف والمستوطنين، وهنا تتضح الصورة فى أقصى تناقضاتها : اعتدال فلسطينى وعربي رسمى، يتمسك بالمسار السلمى ويقبل بحل الدولتين، يقابله تشدد وتطرف إسرائيلي رسمي، لايترك فرصة إلا ويعلن فيها رفضه لحل الدولتين، وللقرارات الدولية ذات الصلة، ويتنكر لحقوق الشعب الفلسطينى فى أرضه ومقدساته.
ومن المفارقات أن تأتى رسالتا نتنياهو لأبى مازن بعد ساعات من اختتام القمة العربية فى جدة، التى أكدت مجددا فى بيانها الختامى على دعم القضية الفلسطينية، ودعم صمود الشعب الفلسطينى فى مواجهة سلطات الاحتلال، وكأنهما قذيفتان أريد بهما نسف أية جهود عربية للسلام، وإفشال المسار السلمى بأكمله، بينما تتودد حكومة الاحتلال بلسان كذوب إلى الدول العربية طلبا لإقامة علاقات طبيعية معها، دون أى ارتباط بين هذه العلاقات والقضية الفلسطينية.
ومن المفارقات أيضا أن تأتى الرسالتان فى أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة بين حكومة نتنياهو وفصائل المقاومة الفلسطسينية، بما يعنى أن الحرب دائرة ولن تنتهى، تتوقف فى غزة لتبدأ فى القدس، ثم تتوقف فى القدس لتبدأ فى غزة، حتى لا تكون هناك فرصة أمام الشعب الفلسطينى لالتقاط الأنفاس، ناهيك عن أن تتوافر له أسباب الحياة الكريمة الهادئة، طالما ظل الاحتلال كاتما على أنفاسه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رسالتي نتنياهو قد جاءتا على وقع مسيرة الأعلام الإسرائيلية التى اجتاحت القدس الشرقية قبل اجتماع حكومته بيومين اثنين ( الخميس 18 مايو 2023)، وهى المسيرة السنوية التى شارك فيها وزراء وبرلمانيون ومستوطنون وعشرات الآلاف من الإسرائيليين، لإحياء ذكرى قرار ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل، بعد عام من نكسة يونية 1976، بهدف تغيير هويتها وتأكيد السيادة الإسرائيلية عليها.
وقد سبق تنظيم المسيرة هذا العام تحذيرات فلسطينية وعربية ودولية لتجنب الاشتباك بين شباب الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، لكن سلطات الاحتلال أصرت على تنظيمها، وفرضت على اتلفلسطينيين إغلاق محالهم التجارية فى مدينة القدس القديمة، وحظرت عليهم رفع الأعلام الفلسطينة، ورغم ذلك وقعت اشتباكات وسقط شهداء ومصابون فلسطينيون، وتم الاعتداء على الصحفيين الذين كانوا يقومون بتغطية الحدث.
لقد أراد نتنياهو برسالتيه وما سبقهما، وما جاء بعدهما أن يؤكد لكل ذى عينين أنه ينفض يده من أى كلام له علاقة بالسلام والتفاوض وحل الدولتين، وأنه شخصيا رجل حرب وليس رجل سلام.