بينما تعمل معظم الدول في جميع أنحاء القارة الأفريقية بضراوة لمعالجة تغير المناخ وانعكاساته السلبية على عملية التنمية، لا يزال الوصول إلى تمويل المشروعات البيئية أحد أكبر التحديات التى تواجه القارة. حيث كشفت دراسة استقصائية حديثة لأسبوع المناخ العالمى الذى عقد فى سبتمبر 2020، الى أن أكثر من نصف الدول الأفريقية واجهت مشكلات في تعبئة التمويل الدولي والوطني لتمويل المشروعات المناخية، وأقل من ربع الدول فقط لديها استراتيجيات للتمويل الأخضر، وثلثها فقط وضع أدوات مالية فى اطار تلك الخطط.
ومع ذلك، بدأ ثلث الدول فقط في تنفيذ تللك الخطط المحددة وطنيًا، ويرجع ذلك الى العديد من التحديات التى تواجه عملية اتساع القاعدة الخاصة بالتمويل الأخضر كأحد أهم سبل تمويل المشروعات البيئية، وتتمثل أهم تلك التحديات فيما يلى:-
- عدم وجود سياسات وأطر تنظيمية وتوجيهية واضحة بشأن ماهية السندات الخضراء فى معظم دول أفريقيا، حتى في حالة وجود مثل تلك المبادىء، لا يوجد الكثير منها تتماشى مع المعايير الدولية، كما أن عمليات ومعايير إصدار السندات الخضراء ليست موحدة في جميع أنحاء أفريقيا، وما يمكن اعتباره تمويل أخضر فى سوق أفريقى، قد لا يجتاز أحد الأسواق الأفريقية القائمة في سوق آخر،نظرا لأنها فى مراحل مختلفة من تطوير أسواق السندات الخضراء. وتجدر الاشارة الى أن عدم وجود تلك الأسس التنظيمية في سوق السندات الخضراء الأفريقية النامية من المرجح أن يبعد الكثيرين من المستثمرين المحتملين من دخول السوق.
- ديناميات تطوير سوق السندات الخضراء معقدة وتتطلب خبرة فنية جيدة. وهناك نقص عام في القدرات فيأفريقيا، ولا سيما داخل الهيئات التنظيمية وبورصات الأوراق المالية،للتعامل بفعالية مع جميع التعقيدات التقنية الدقيقة التي ينطوي عليها الأمر. فعلى سبيل المثال، لا يوجد معايير متعلقة بتحديد عائدات السندات الخضراء، كذلك غياب الدعم الفني للعديد من متطلبات الإصدار.
- ضعف أداء الجهات الفاعلة فى مجال التمويل الأخضر بأفريقيا، وأهمها الوسطاء الماليين من القطاع المالى المصرفي وغير المصرفى بما في ذلك البنوك والمؤسسات الاستثمارية والأسواق المالية. حيث تتسم أسواق رأس المال في أفريقيا بالضعف وقلة السيولة، حيث يوجد فى افريقيا 29 بورصة للأوراق المالية من بينها بورصتان إقليميتان تخدمان 13 دولة في غرب ووسط أفريقيا الناطقة بالفرنسية. ويعتبر أكبر اللاعبين الأفارقة في أسواق رأس المال من حيث القيمة السوقية والأسهم المدرجة هما بورصتى الدار البيضاء وجوهانسبرج، والأسواق المالية لكل من مصر ونيجيريا وناميبيا وزيمبابوي. وتتعامل معظم البورصات عادة مع الأوراق المالية أو السندات قصيرة الأجل بالعملة المحلية، ولكنها لا تزال في مرحلة مبكرة من التقدم وتعانى من العديد من نقاط الضعف المؤسسية (مثل القوانين غير الفعالة للأطر التنظيمية)، وانخفاض معدل رأس المال الاستثماري، وانخفاض مستوى التكامل المالي) وان كانت هناك بعض البورصات الافريقية مثل بورصة جوهانسبرج بجنوب افريقيا تعتبر الأكثر قدرة على التعاملمعظم المتطلبات الفنية لتطوير السندات الخضراء والإصدار في سوق رأس المال. كما تتميز ببنوك على درجة من الكفاءة مثل بنك Nedbank، الذى أظهر قدرة على تطوير وإصدار السندات الخضراء فيجنوب أفريقيا. وكان أول مؤسسة مالية من القطاع الخاصيعمل على تطوير وإدراج سندات الطاقة المتجددة في بورصة جوهانسبرج في أبريل 2019.
- تزايد المخاطر المالية فى أفريقيا، فلا زالت تمثل حواجز كبيرة أمام الاستثمارات عموماً وفى مجال المشروعات البيئية خصوصاً، والتى يعود معظمها الى تقلبات أسعار العملة، وتذبذب أداء الأسواق المالية، وعدم الاستقرار السياسى والأمنى.
ومن هنا تتركز توجهات المستثمرين عادة نحو الاستثمارات المضمونة من قبل الحكومات الأفريقية، أو القطاع الخاص فى مجالات بعينها مثل الاتصالات والخدمات المالية. فى الوقت الذى تتراجع فيه توجهات الاستثمار نحو مشروعات بيئية هامة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها. كذلك مشروعات البنية التحتية المواتية لتغيرات المناخ والبيئة مثل المياه المحسنة، ومدخلات الري الصديقة للمناخ (مثل المحاصيل المقاومة للجفاف(
- نقص الوعي بمختلف مصادر التمويل المناخي، ومشاركة محدودة لأصحاب المصلحة من المستثمرين، بما في ذلك من القطاع الخاص. يضاف الى ذلك استخدام التمويل الأخضر بشكل مغاير للحقيقة فى أفريقيا، حيث يدعى بعض المستثمرين بأن مشروعاتهم صديقة للبيئة للحصول على التمويل، وهى ادعاءات مضللة ولا شأن لمشروعاتهم بالحفاظ على البيئة على الاطلاق.
- ضعف قدرة الحكومات الأفريقية على الامتثال للمتطلبات والمعايير والإجراءات الخاصة بمصادر التمويل الأخضر، وتطوير المشروعات المؤهلة لهذا التمويل، وكثرة الاجراءات البيروقراطية للحصول عليه. فضلاً عن قلة توفير التمويل المناخي في بنود الميزانيات الوطنية للدول الأفريقية المحملة بالفعل بالعديد من الأعباء. كذلك تصور مشكلة تغير المناخ لدى بعض الدول الأفريقية باعتبارها مشكلة بيئية وليست تنموية، مما يعوق الحلول المختلفة لتلك المشكلة وأبعادها، وخلق مصادر التمويل التى تحصل عليها المشروعات المفيدة للبيئة.
- المدى الزمنى قصير الأجل للادخار فى أفريقيا، بما لا يسمح بوجود ودائع صالحة للتمويل الاستثمارى للمشروعات المفيدة البيئة، والتى تحتاج بطبيعتها الى فترة زمنية طويلة الأجل ولا تقل عن عقد من الزمن (10 سنوات (. يمكن القول بـأن مشكلة التغير المناخى أحد أهم وأخطر المشكلات التى تتعرض لها القارة الأفريقية رغم أنها الأقل تسبباً فيها، وأن التوجه نحو الاقتصاد الأخضر وتوفير سبل التمويل اللازمة له سيكون المخرج الوحيد من تلك الأزمة. ولا ينكر جهود بعض الدول الأفريقية فى هذا المجال، كذلك بعض المؤسسات الأفريقية، حيث أصبحت المؤسسات المالية في إفريقيا أكثر نشاطًا في تسهيل التمويل الأخضر، ولعب البنك الإفريقي للتنمية دورًا رئيسيًا في الاستثمار المستدام والمشروعات الخضراء بالقارة. فبين عامي 2011 و 2015، حصل بنك التنمية الأفريقي على ما يقرب من 12 مليار دولار أمريكي لدعم المشروعات المقاومة لتغير المناخ كجزء من خطة العمل الخاصة بتغير المناخ Climate Change Action Plan (CCAP). ويهدف الصندوق الأفريقي لتغير المناخ The bank’s African Climate Change Fund (ACCF) التابع للبنك إلى توفير الوصول إلى مبالغ كبيرة من التمويل للدول الأفريقية لتوسيع نطاق التمويل الأخضرولكن ما زالت القارة تتعرض للعديد من التحديات التى تحول دون انتشار هذا النمط التمويلي الهام، ومن هنا توصى الدراسة بالاتى :-
- يجب التعامل مع قضية تغير المناخ من قبل الدول الأفريقية على أنها قضية حياة أو موت تهدد الأمن الإنساني على وجه الأرض، ولابد من معالجتها بشكل ممنهج ومنظم من خلال وضع خطط محلية للتنمية الخضراء، كذلك تركيز الاستثمارات الأجنبية فى مجالات صديقة للبيئة لضمان كفاءة استخدام الموارد واستمراريتها.
هناك مسؤلية رئيسية على اقتصادات الدول الكبرى المتسببة بشكل أساسى فى تلوث البيئة والمناخ فى أفريقيا ؛ وبالتالى يصبح لزاماً عليهم دعم القدرات الأفريقية فى مجال التحول الأخضر، وتوفير سبل التمويل المناسبة لهذا المجال، وتعدد الأطراف المساهمة فى تمويل المشروعات الصديقة للبيئة، فلا تستطيع القارة بمفردها مواجهة أثار التغيرات المناخية الضخمة،
والأمر يحتاج بالضرورة الي تكاتف دولى خاصة فى مجالى توفير التمويل اللازم، وتوطين ونقل التكنولوجيا المتعلقة بالمشروعات البيئية. كما يمكن تفعيل المنصة الدولية للتمويل المستدام التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في أكتوبر 2019. وتهدف إلى تعزيز الاستثمارات الخضراء الخاصة من خلال جعل أنظمة التمويل الأخضر الدولية أكثر اتاحة، وقد انضمت كينيا والمغرب والسنغال إلى المنصة.
وسوف تمكّن مثل هذه المبادرات من تطوير حوار أكثر شمولاً نحو معايير مشتركة بشأن السندات الخضراء وأنظمة التصنيف للمشروعات الصديقة للمناخ.
- زيادة التمويل العام الموجه للاستثمارات العامة الصديقة للبيئة، واجتذاب استثمارات القطاع الخاص من خلال سياسة ميسرة وبيئة تنظيمية كفء، وإنشاء آليات قائمة على السوق لتحفيز استثمارات القطاع الخاص في إجراءات التخفيف.
- ان الاهتمام بقضايا تغير المناخ وانعكاساتها على القارة الأفريقية، تحتاج بالتأكيد الى التعاون الاقليمى والقارى، حتى يمكن وضع نهج أكثر تناسقًا وتكاملاً يخدم أهداف القارة، ويحميها من التداعيات السلبية لتغيرات المناخ، فضلاً عن الحاجة الى تفعيل كل ما يتعلق بالجانب البيئى فى أجندة أفريقيا للتنمية المستدامة 2063.
-ضرورة وضع استراتيجية كاملة للتحفيز نحو المشروعات الخضراء، من خلال تبنى منظومة ضريبية للتعاملات مع المشروعات الصناعية الخضراء منخفضة الكربون، ووضع تلك المشروعات فى قائمة الأولوية للحصول على التمويل الأخضر
وهو ما تفعله العديد من الدول الكبرى، فعلى سبيل المثال، تتبنى حكومة الصين مجموعة من الحوافز الضريبية والسياسات الداعمة لاصدار السندات الخضراء يمكن للدول الأفريقية الاستفادة منها والاستناد الى تلك التجربة.
- الاطار القانونى والتشريعى مطلوب بشكل كبير، فلابد وأن يكون هناك جوانب تنظيمية تعلق بسبل التمويل الأخضر، وما يخضع له من سبل المساءلة والشفافية، لضمان ناهة الحصول على هذا التمويل، ومنع أى ممارسات غير قانونية مثل مشروعات غسيل الأموال وخلافه والتى تنتشر فى أفريقيا بشكل كبير. فضل عن الحاجة الى نظم التقييم والمراقبة الدائمة لسوق اصدار السندات الخضراء بالأسواق المالية الأفريقية، لتحديد سلوك المستثمرين وتقييم الأثر من هذا الاصدار.