فى نوفمبر 2019 توفى جار عزيز علي، كان مهندسا مثقفا، تعارفنا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضى، عندما اشترى شقة فى العمارة التى أسكن فيها، كان عائدا من رحلة عمل طويلة فى الكويت استمرت لأكثر من عشرين عاما، ومع توالى الأيام وتعدد اللقاءات وتبادل الزيارات تحولت علاقتنا إلى صداقة وثيقة، واكتشفت ولعه بالموسيقى، هذا الولع الذى بلغ درجة الاحتراف، حتى صار خبيرا ومؤرخا موسيقيا، يحظى باحترام وتقدير أساتذة الموسيقى والمتخصصين من الملحنبن والعازفين.
ذهبنا معا كثيرا إلى الأوبرا، وإلى حفلات موسيقية شرقية وغربية فى المكتبات الكبرى، وحضرت بعض لقاءاته مع كبار الموسيقيين، ورأيتهم كيف يحتفون به، ودعوته لإلقاء محاضرات عن الموسيقى فى ندوات الصالون الثقافى بنادى الزمالك، الذى أسسته مع مجموعة من زملائى الصحفيين والأدباء والمثقفين خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وكنت أتعجب من جديته والتزامه عنما يقوم بالتحضير لموضوع الندوة، وكأنه يتأهب برسالة علمية لينال درجة الدكتوراة.
كان يعيش بمفرده، لا زوجة ولا أولاد، وإنما مكتبة هائلة من الاسطوانات وشرائط الفيديو والسيديهات المسجل عليها حفلات موسيقية عالمية وأوبرات، حصل عليها من سفرياته فى شتى أنحاء العالم، بالإضافة طبعا إلى آلاف الشرائط المسجل عليها حفلات لنجوم الطرب المصريين والعرب، القدامى والمعاصرين، ومؤلفات موسيقية نادرة لفنانين كثيرين، بعضهم لم نسمع عنهم، وأوبريتات من مسرحيات قديمة لسيد درويش والشيخ سلامة حجازى والشيخ زكريا أحمد وغيرهم، فضلا عن أغنيات عبدالوهاب وأم كلثوم القديمة جدا، ومع هذه الشرائط والسيديهات هناك مئات الكتب المتخصصة فى الموسيقى والموسيقيين، وكتب أخرى فى شتى فروع الثقافة والمعرفة، عربية وأجنبية، فى التاريخ والأدب والشعر والدين والفلسفة والطبيعة وما إلى ذلك.
بعد وفاته ـ رحمه الله ـ ظلت الشقة على حالها عاما أو عامين، حتى شرع الورثة فى عرضها للبيع، وأخيرا بيعت بكل مافيها منذ أسبوعين، ويبدو أن الورئة والمشترى كانوا زاهدين فى المكتبة التى ـ فيما يبدوـ كانت عبئا ثقيلا عليهم، لم يعرفوا كيفية آمنة للتخلص منها، فأهدونى مشكورين بعض الكتب النفيسة، وباعوا جانبا كبيرا من الكتب لتاجر الروبابيكيا، أما الشرائط فألقيت فى مدخل العمارة إلى حين يتفق البواب مع التجار على السعر الذى يرضيه.
هل تتخيل المنظر البائس ؟
هل وصلتك الرسالة بأن الميراث الثقافى هو أرخص عناصر الميراث الذى نتركه لمن بعدنا، ولا أحد يقدر قيمة هذه الثروة الغالية، وكم دفعنا فيها، وكيف جمعناها ؟
كانت هذه المكتبة أهم ما حمله صديقى معه من الغربة، وكثيرا مارأيت فرحته وهو يضيف إليها كتابا أو اسطوانة أو شريط فيديو، كأنما يضاعف ثروته ويراكمها، لذلك شعرت بوخز الضمير وأنا أرى هذه الثروة ـ التركة ـ ملقاة فى مدخل العمارة، كجثة متعفنة يجب التخلص منها.
وفى قمة الحزن ألهمنى ربى عز وجل أن أبلغ زميلتنا الناقدة الموسيقية الأستاذة كاريمان حرك بالأمر، وهى بالتأكيد تعرف جارى جيدا، وكتبت عنه عدة مرات، فقد كان له ـ كما قلت ـ نشاط يارز فى الأوبرا، وكان أحد الرعاة الداعمين لأوبرا الاسكندرية.
وبسرعة مشكورة أبلغتنى الزميلة العزيزة أنها هاتفت رئيس الأوبرا واتفقا على أن يبعث بسيارة لتحمل هذه الثروة الفنية المهدرة فى مدخل العمارة، كان ذلك بعد ظهر الخميس الماضى، ولكن للأسف لم تأت السيارة حتى كتابة هذه السطور( صباح السبت ).
أعرف أن هذه ليست الحالة الوحيدة، وأن هناك مكتبات لعظماء كثيرين فيها ذخائر وثروات ثقافية نادرة بيعت للروبابيكيا بأبخث الأثمان، ولم يعلن عنها إلا حين وقعت فى يد من يعرف قدرها وقيمتها، أو حين ينبئ الإهداء المكتوب عليها عمن كانت فى حوزته، والسبب فى ذلك يرجع ـ فى تصورى ـ لعدم وجود جهات منظمة تهتم بالتراث الثقافى وتعلى قيمته بعد وفاة صاحبه، وعدم وجود جهات تشجع على أن يتبرع الناس لها بالمكتبات، بالإضافة بالطبع إلى عدم وعى الورثة بالقيمة الثقافية لما بين أيديهم من كنوز.
وبهذه المناسبة أذكر أن العالمة الجليلة الدكتورة زينب عبدالعزيز، أستاذة الحضارة وأول امرأة عربية تترجم معانى القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، وفنانة الرسم الرائعة، صاحبة الـ52 معرضا، مازالت تبحث عن جهة رسمية تهدى إليها مكتبتها الفخيمة التى تزخر بالآلاف من أمهات الكتب والمراجع والقواميس واللوحات النادرة، بعد أن يحين الأجل، أمد الله فى عمرها، وبارك فى عطائها، ونفعنا بعلمها.