العمل الفنى فى الأساس فكرة، وبقدر لمعان تلك الفكرة وبريقها يكون استقبال الجمهور لها، وعلى قدر بريقها يكون انتشارها ورسوخها عند الناس، أما إذا صادفت تلك الفكرة فنانًا صادقًا حقيقيًا فهذا معناه أن الخلود والعالمية فى انتظار تلك الفكرة المحظوظة.وهذا ما حدث من وجهة نظرى لتلك الفكرة العبقرية التى راودت الفنان التشكيلى الشاب الزميل والنحات والرسام، وقبل كل الصحفى ذلك الصحفى فادى فرنسيس الذى استضافت قاعة صلاح طاهر بدار الأوبرا المصرية الأسبوع الماضى أحدث معارضه والذى جاء تحت عنوان «يهمنى الانسان»، والذى يضم مجموعة مبهرة من التماثيل صغيرة الحجم التى نحتها فادى بالصلصال الحرارى الملون مع «تاتش» من ألوان «الاكريليك» لإبراز جمال تلك الألوان وتوظيفها بالشكل الجمالى المناسب الذى استهدفه الفنان الشاب.
قضيت فى جنبات المعرض ساعة جميلة من الزمن بصحبة اثنين من الزملاء والأصدقاء هما الصحفيان الكبيران ثروت محمد ومحمد رضوان وكلاهما كان من أعمدة جريدة المصرى اليوم منذ تأسيسها، وقد زاملا فادى فترة طويلة جدًا من تاريخها. شعرت ولأول مرة منذ زمن بعيد أننى قد اغتسلت بفضل ذلك الفن الراقى من هموم كثيرة أحدثتها قضايا الاقتصاد والسياسة اللعينة التى أفسدت علينا براءتنا وأوقعتنا اسرى فى براثنها التى لا ترحم. سألت نفسى مندهشًا: كيف يحزن من يجد معرضًا من هذه النوعية يستطيع أن ينتشله من الواقع الصعب الضيق الكاتم للأنفاس لعالم الفن والخيال الأوسع رحابة، حيث يمكنك أن تملأ رئتيك بهواء نقى نحتاجه كلنا فى هذه الأيام الصعبة التى تضن علينا براحة البال.
ولأن الإنسان هو محور اهتمام أى فنان صادق بعيدًا عن جنسيته أو ديانته أو لون بشرته، جاء اختيار «يهمنى الإنسان» عنوانًا لمعرض فادى والمقتبسة من رائعة الشاعر عبدالرحيم منصور والملحن احمد منيب والمطرب محمد منير حدوتة مصرية. انطلق فادى بمعرضه ليكون حدوتة عالمية تحكى من خلال تلك المجسمات الصغيرة حكاية البشر فى كل مكان بقدر تأثيرهم على الإنسانية كلها، وليس فقط على مجتمع اتهم. هكذا كان حتى مبدعونا المصريون والعرب مثل طه حسين ونجيب محفوظ وأم كلثوم وعمر الشريف لا يستطيع أحد أن ينكر تأثيرهم على الإنسانية كلها جنبًا إلى جنب مع الأم تريزا وشكسبير وفان جوخ وأينشتاين وموتسارت وبيتهوفن وكونفوشيوس والجوهرة السوداء بيليه وغيرهم ممن شملهم معرض فادى فرنسيس وتضيق المساحة بذكرهم جميعًا. ويبلغ عددهم ثلاثين شخصية من أصل مئة صنع لهم فادى مجسمات تجوب عواصم العالم المختلفة فى عدة معارض.
لفت نظرى تلك القدرة على إبراز التفاصيل الدقيقة لكل شخصية واختلاف تعبيرات الوجوه حسب زاوية النظر له فربما ترى ليوناردو دافنشى مبتسما لو نظرت له من اليمين، حزينًا لو رأيته من زاوية عكسية وكأن الفنان يريد أن يقول إن الإنسان عمومًا فى كل زمان ومكان هو عبارة عن مشاعر متعاقبة بين الحزن والفرح تعاقب الليل والنهار. قدرة رهيبة أن تبرز كل ذلك من خلال مجسم صغير فى حجم كف اليد منحوتًا من الصلصال عكس ربما التماثيل الكبيرة التى تتيح للنحات مساحات أكبر للتعبير عن تفاصيل الشخصية وملامحها النفسية والجسمانية، أما أن يبرز فادى كل ذلك فى تلك المجسمات الصغيرة فهى مقدرة لا يتمتع بها إلا فنان متمكن من أدواته. فشكرًا لدار الأوبرا وفادى فرنسيس ولكل من يمنحنا ولو ساعة من الراحة تعطينا القدرة على احتمال الصعب بالفن الراقى.
hisham.moubarak.63@gmail.com