الفرحة في عيد الأضحى مختلفة..وهي فرحة مضاعفة..فرحة بالعيد والتضحية تقربا الى الله تعالى..وفرحة بعودة الحجيج الى ديارهم سالمين غانمين مغفورا لهم باذن الله وفضله ورحمته. والمسلم لا يعدم لحظات للفرح في القرب من الله سواء كان هو الفاعل او سواء كان في الحضرة مع المشاهدين لهالات النور المتنسمين لعبير الأرواح الزكية والمبتهجين بتمام النعمة وكمال اركان الدين وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم..
الملاحظة الجديرة بالانتباه ان المصري يبدع دائما في الفرحة ويحول المناسبات الى مصدر اشعاع دائم للبهجة والسرور وربما يكون المصري المعاصر قد تفوق في جانب صناعة الفرحة على المصري القديم وجنائزياته الشهيرة والتي ابدع في تسجيلها وتصويرها سواء على جدران المتاحف والمعابد وحتى في المقابر وفي فنون العديد والنحيب في الطريق الى الحياة الاخرة..
الحج نال قسطا وافرا من صناعة الفرحة والتي تبدأ من لحظات البشارة والشروع في التوجه الى أداء الحج واثناء السفر وما بعد العودة ..والفلكلور المصري زاخر بمباهج عديدة تراثية وغيرها لا يزال الكثيرون يستمتعون بها حتى الان وان خفت حدة المظاهر والتوجه نحو التعبير بالطريقة القديمة..الا ان بعض الشذي لا يزال يروي القلوب ويضيف مسحات من جمال على المناسبات هنا وهناك.
تأصيل العودة من رحلة الحج كان من الأشياء التي يحرص عليها كثير من الناس ويعبرون عن ذلك بما كان مشهورا من عمليات تجديد للمنازل وحتى للشارع وتزيينه بالرسومات الدالة والمعبرة وكذا على جدران المنزل وحوائط الغرفات فترى صورا للكعبة المشرفة ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وصور للبواخر اوالطائرات وغير ذلك مما يشير ويعبر عن رحلة الحج .. ثم حفلات المزمار البلدي وما شابه..
وكانوا يحفرون على الخشب في واجهة الدار وعلى الباب الرئيسي اسم الحاج وسنة أداء الفريضة..وهو امر مشهور في قرى مصر بحري او الصعيد..وعندما زرت قرية موط الشهيرة في الواحات وهي قرية مبنية على طراز فريد يناسب الصحراء ويحمي السكان من كل شيء من الحرارة والرياح واللصوص وتسلل الاغراب وغيرهم ممن يريد شرا او غير ذلك .. معظم الواجهات الخشبية لمنازل القرية التي يغطيها وشوارعها سقف واحد محفور عليها بالخط البارز اسم الحاج وتاريخ وسنة الحج..وبعض العائلات كانت تتفاخر بان بها اكبر عدد من الحجاج ويعدونها ميزة كبرى ان فلانا زار الحرم وقبر النبي صلى الله عليه وسلم..
ومن أبرز ما يكتب مع الرسوم الآيات القرآنية مثل «وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق» وأحاديث للنبى صلى الله عليه وسلم منها: «ما بين قبرى ومنبرى روضة من رياض الجنة».أو عبارات مثل «حج مبرور وذنب مغفور» أو أدعية مثل «لبيك اللهم لبيك» و«يا رب سترك ورضاك».مشفوعة بصورة شخصية للحاج بملابس بيضاء او في زي الاحرام.
ويحفظ لنا التاريخ الحديث للفولكلور أناشيد واغاني خاصة ومدائح نبوية اعدت خصيصا لاستقبال الحجيج عند عودتهم وبالمثل في وداعهم عند السفر ومعظمها كلمات بديعة تفيض حبا ووجدا وشوقا للأراضي المقدسة وتحمل امالا وادعية بان يهب الله الجميع هذا الفضل الكبير..مثل “يا رايحين للنبى الغالى” وأغنية “لاجل النبي لاجل النبي “.
من الطريف ان تحمل مقاطع التيك توك ووسائل التواصل العديد من تلك الاعمال وتعيد نشرها وتذكير الناس بها سواء الأغاني الفلكلورية او المدائح النبوية او بعض حفلات استقبال الحجيج ..
لفت نظري من تلك المقاطع احتفالات خاصة حتى بتوديع كسوة الكعبة التي كانت تخرج من مصر كل عام وهو موكب مهيب يحضره الملك وكبار رجال الدولة ابتداء من رئيس الوزراء والوزراء والاعيان وجموع غفيرة من عامة الناس وتلقى القصائد والاشعار وبعض المدائح والاغاني العاطفية والدينية خاصة بالحرم الشريف و “رايحين للنبي للغالي..
مقاطع نادرة ورائعة تعكس جانبا من العظمة المصرية ودورها ومكانتها ولا اعرف لماذا تغيب هذه الاعمال عن وسائل الاعلام والفضائيات التي تعاني فقرا مدقعا في المواد النافعة..لماذا لا يتم البحث والنبش عن مثل هذه الاعمال الفريدة وإعادة تقديمها للأجيال ولتوضيح الصورة الكاملة وللرد على المتطاولين ومن يريدون ان يطمثوا معالم التاريخ تحت سرابيل الوعي الغائب او المزيف..
والمعروف ان مصر ظلت لفترات طويلة ترسل كسوة الكعبة إلى السعودية وكان المحمل من أهم القوافل التي تذهب إلى السعودية وتفنن الصناع في تصميمه وزخرفته وكان “حسن الطلعة وجمال الصنعة، بخرط متقن وشبابيك ملونة بأنواع الأصباغ وعليه كسوة من الديباج المزركش بالذهب” وكانت تصنع في القاهرة الفاطمية حيث تطرز بالدهب والفضة وترسل على ظهر الإبل إلى هناك، وكان يصاحبها موكب كبير من الحراس يرددون الأغاني الخاصة بها كما كانوا يعودون بالكسوة القديمة التي كانت تقطع وتوزع على المقربين وسادة القوم حتى ان الأولياء كانوا يقتطعون بعض الأجزاء منها ويتبركون بها.
لايمكن ان نغض الطرف عن ظهور جيل جديد من المنشدين والمداحين من الشباب والفتيات أعاد الى الساحة بوارق امل في احياء هذا الفن الذي كاد ان يندثر او يتوارى خلف السرعات المتلاحقة التي تشهدها الحياة المعاصرة وطغيان الجوانب المادية على الحياة الذي سرق كثيرا من الناس واثر على حياتهم الروحية بصورة ملحوظة..
في التأصيل والتخليد لرحلة الحج لايمكن ان نغفل الجانب المهم الذي سجله ببراعة كبار الادباء والمفكرين والذين نقلوا صورا حية لما شاهدوه في ارض المشعر الحرام ونقلوا وعبروا عن كثير من المشاعر والفيوضات الروحية والوجدانية وانفعالات البشر في مواطن الجلال والجمال في الأراضي المقدسة في الأرض الحرام ومع طوفان ضيوف الرحمن وتعلقهم بالاستار وبرب السماوات وهم في حالة ارتقاء روحي نادر الحدوث وفي لحظات مهيبة لجلال التجرد والتوجه الى الله تعالى!
شعراء وادباء كثر كتبوا عن تجربتهم في الحج قديما سجلوها في كتبهم ودوواينهم في العصور القديمة والحديثة وهناك دراسات حول هذه الاعمال تزخر بها رفوف المكتبات العربية ..في متابعة هذه الكتابات استوقفنتني ملاحظة ابداها الدكتور طه ابوكريشة نائب رئيس جامعة الازهر الأسبق رحمه الله وهو يتحدث عن الحج والشعراء ومع امير الشعراء احمد شوقي الشاعر الأشهر والاصدق والابرع في التعبير ورسم الصور البلاغية في المناسبات الدينية بصفة عامة والحج بصفة خاصة.. لأحمد شوقي قصيدتان تتصلان بالحج اتصالا مباشرا- وفقا لما قاله د. ابوكريشة- وهو لم يصغهما من وحي أدائه للفريضة وإنما قالهما من وحي أداء غيره فكلا منهما قيل في توديع ذاهب إلى بيت الله الحرام وإذا تجاوزنا عن هذه المناسبة الشخصية الخاصة فإننا نستطيع أن نعدّ كلاًّ من القصيدتين تعبيرًا عن خواطر الشاعر الذاتية نحو بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة. أما أولى القصيدتين فقد قالها شوقي حين حج الخديوي عباس حلمي الثاني ويتصدرها هذا الدعاء الضارع الذي لا يملك الإنسان إلا أن يوجهه إلى كل قاصد بيت الله الحرام:
عليك سلام الله في عرفات *** إلى عرفات الله يا خير زائر
فإذا كانت الزيارة انتقالاً من مكان إلى مكان فإن زائر البيت الحرام هو خير زائر إلى خير مكان حقًّا.
ويحمل كل زائر رسالة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يبلغه فيها ما آل إليه المسلمون في حاضرهم، كيف تفرقوا بعد توحّد وكيف ناموا بعد يقظة وكيف أحاطت بهم الظلمات بعد أن فرطوا في النور الذي بين أيديهم، نور القرآن الكريم، ونور السنة النبوية المطهرة..
الأديب الكبير أحمد حسن الزيات كتب مقالة جميلة في الرسالة عن الحج مشحونة بالرسائل الفكرية والعاطفية مما جاء فيها :إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثراً للتضحية ورمزاً للبطولة فالحج إليها إيحاء بالعزة وحفز إلى السمو وحث على التحرر:هنا غار «حراء» مهبط الوحي وهنا «دار الأرقم» رمز التضحية وهنا «جبل ثور» منشأ المجد ….وتلك هي البطحاء التي درج على رمالها قُواد العالم وهُداة الخليقة!
وفي المقالة قدم رؤية خاصة في مفهوم الاستطاعة تحتاج الى وقفات وتوضيحات قال:أما شرط الاستطاعة فقد بطل اليوم وأصبح الحج فريضة عين لا تحول عن أدائها عقبة ولا يَسوغُ في تركها معذرة فأنت تستطيع بالمال اليسير وفي الزمن القصير أن تحج على الباخرة والسيارة والطيارة، دون أن تعرِّض حياتك للموت وثروتك للنهب وصحتك للمرض!
الكاتب الكبير أنيس منصور سجل تجربته الخاصة وحالته الروحانية مع الحج فى كتابه «طلع البدر علينا»حاول فيه كما يقول: أن أصور عذابى العقلى وحيرتى الدينية وكيف أننى خرجت منها إلى شاطئ أمين شاطئ طويل عريض لا أعرف كيف أسبح فيه لقد هدانى الله إليه فأصبح عندى راحة نفس ووضوح رؤية وصفاء عقل وانشراح صدر وسهولة فى التعبير عما فى نفسى وليس هذا قليلا فالحمد لله»ومع أصوات الملبين أحسست أننى فى مسجد فى السماء وأن أصوات الناس وهم يقولون:لبيك اللهم لبيك..إن الحمد والنعمة لك والملك..لا شريك لك لبيك» كأن شيئا من دفء يتسلل إليّ ثم حرارة ثم كهربة فارتعاشة وزلزلة….فجأة كأن كل ما فى نفسى وعقلى قد تعب أو قد أضيء فجأة ورأيت ما لم أر وسمعت ما لم أسمع شيء رطب مضيء مريح منعش فى داخلى، عدت أقرأ القرآن وعدت أقرأ الحديث وقرأت كتاب «عبقرية محمد» للعقاد وكتاب «محمد» لهيكل وكتاب «محمد» للحكيم و«على هامش السيرة» للدكتور طه حسين و«سيرة ابن هشام»وما كتبه المستشرقون ووجدت نفسى مأخوذا مسحوبا منجذبا وفهمت ما لم أكن أفهم واكتشفت أننى أجهل الكثير واهتديت أن الإسلام أبسط الأديان وأكثرها تجريدا وأعمقها فهما للإنسان.
وقال:”أننى لا ادعو إلى دين جديد وإنما ادعو الى إحساس جديد بالدين كأنني كنت نائماً وصحوت على ضوء الفجر!
ترى ماذا يقول لنا ادباء وشعراء عصر النت والسوشيال ميديا ؟!
كل عام وانتم بخير ..والله المستعان..
megahedkh@hotmail.com